قطع طيران التحالف الدولي شرايين الحياة في محافظة الرقة السورية (500 كيلومتر شرق العاصمة دمشق)، أبرز معاقل تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) في البلاد، وذلك عبر تدمير جسور تربط المدينة بريفها، ما شكّل صدمة لدى عشرات آلاف المدنيين الموجودين في المحافظة التي سيطر عليها "داعش" بشكل كامل في عام 2014، وتحمّلت منذ ذلك الوقت تبعات كبرى، دفعت عدداً كبيراً من سكانها إلى النزوح أو الهجرة.
وتبدو المحافظة على وجه العموم، ومركزها خصوصاً، مقبلة على أيام تُوصف بـ"العصيبة"، مع بدء مرحلة جديدة من عملية "غضب الفرات"، تستهدف قطع طرق تربط الرقة مع دير الزور إلى الشرق منها. وأكدت مصادر مطلعة، لـ"العربي الجديد"، أن الإدارة الأميركية على وشك إعداد خطة بديلة عن خطة إدارة الرئيس السابق، باراك أوباما، تتضمن دخول قوات عربية وأجنبية على خط مواجهة حاسمة مع "داعش" في شرقي سورية.
ودمّر طيران التحالف، يومي الخميس والجمعة الماضيين، غالبية الجسور المقامة على نهر الفرات وفروعه، والتي تربط مدينة الرقة بأريافها، ما خلق أزمة إنسانية جديدة تُضاف إلى أزمات عدة تضغط على عشرات آلاف المدنيين الذين اختاروا البقاء في مدينتهم، رغم تحوّلها إلى واحدة من أخطر المدن في العالم. وأشار الناشط الإعلامي، المكنى بـ"أبو البتول"، إلى أن طيران التحالف الدولي استهدف الخميس جسري الرقة الأهم، وهما القديم والجديد، ويربطان مدينة الرقة بريفيها الجنوبي والغربي، ما أدى إلى تدمير "القديم" بشكل شبه كامل، وانقطاع المياه عن المدينة بسبب تدمير خط المياه الرئيسي الذي يمر فوق الجسر. وأوضح "أبو البتول" أن طيران التحالف الدولي استهدف أيضاً جسور قرية العبارة، وقرية الكالطة في ريف الرقة الشمالي، والمغلة في الريف الشرقي. ويعد الجسر القديم، والذي أقامه الإنكليز في عام 1942 من أهم معالم الرقة، وهو جزء من ذاكرة مدينة كانت من المدن المهمّشة في عهدي الأسدين، وباتت اليوم في عين عاصفة ربما تفضي إلى تدمير ما بقي منها، ما ولّد صدمة لدى أهالي الرقة.
وهذه ليست المرة الأولى التي يستهدف فيها التحالف الدولي جسوراً في محافظة الرقة، إذ دأب على قصفها إثر كل عملية تأهيل تُجرى لها بعد استهدافها. ومن الواضح أن استراتيجية استهداف الجسور تأتي في سياق تضييق الخناق على مقاتلي "داعش" داخل المدينة، وقطع طرق الإمداد من المدينة وإليها. لكن مصادر محلية قالت، لـ"العربي الجديد"، إن المدنيين "هم المتضرر الأكبر من تقطيع شرايين المدينة"، مشيرة إلى أن أسعار المواد الغذائية "تضاعفت فور تدمير الجسور"، موضحة أن "حالة توجس، تكاد تصل إلى حدود الهلع، تسود المدينة وأريافها، وهي تنتظر المجهول". ولا توجد أرقام مؤكدة عن عدد سكان مدينة الرقة وأريافها، لكن المصادر المحلية توقعت أن يصل عدد سكان المدينة حالياً إلى نحو نصف مليون شخص، ومثلهم في الأرياف، بينهم من نزح من مختلف المحافظات السورية. وأكدت المصادر أن هناك حالة "استياء"، وصفته بـ"الشديد" لدى عموم المدنيين في الرقة من استهداف مرافق الحياة من قبل التحالف الدولي، مشبّهة ما يجري بـ"حرب إبادة" مدنيين "تقطعت بهم السبل، وتقع عليهم أعباء وتبعات حرب مصالح إقليمية ودولية يدفع ثمنها المؤلم الأبرياء".
في غضون ذلك، أعلنت غرفة عمليات "غضب الفرات"، والتي تقودها "قوات سورية الديمقراطية" (قسد)، المكونة بغالبيتها العظمى من قوات "الاتحاد الديمقراطي" الكردي، أمس السبت، عن بدء المرحلة الثالثة من هذه العملية التي تهدف الى "عزل" مدينة الرقة، قبيل البدء بمحاولات انتزاع السيطرة عليها من "داعش". وقالت المتحدثة باسم الغرفة، جيهان شيخ أحمد، في بيان تلته أمام مندوبي وسائل إعلام، إن المرحلة الجديدة "تستهدف تحرير الريف الشرقي للمحافظة"، مشيرة إلى أن التحالف الدولي سيقوم "بتأمين التغطية الجوية لتقدم قواتنا"، كما يقدم المساعدة من خلال "فرق خاصة" في أرض المعركة، موضحة أن عزل مدينة الرقة هو الهدف الأساسي للحملة العسكرية في هذه المرحلة. وقالت "ستشارك في هذه المرحلة، من حملة غضب الفرات، جميع الفصائل العسكرية التي شاركت في المراحل السابقة"، مشيرة إلى مشاركة عدد من شبان قرى سيطرت عليها "قوات سورية الديمقراطية" أخيراً في ريفي الرقة الشمالي والغربي، "تم تدريبهم، وتسليحهم بمساعدة ودعم من قوات التحالف الدولي"، لافتة إلى أن العمليات العسكرية لن تتوقف في ريف الرقة الغربي.
وكانت عمليات "غضب الفرات" قد بدأت، في أوائل نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، بمشاركة نحو 30 ألف عنصر في محاولة لـ"عزل" الرقة تنفيذاً لاستراتيجية قتال وضعتها وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون). وحققت العملية تقدماً في ريف الرقة الشمالي، قبل أن تنتقل في 10 ديسمبر/كانون الأول الماضي إلى المرحلة الثانية التي حققت خلالها نجاحات، عبر السيطرة على عدة قرى في الريف الشمالي الغربي، والغربي، للرقة مقتربة من سد الفرات على كتف مدينة الطبقة. وذكرت مصادر مطلعة أن المرحلة الثالثة من "غضب الفرات" تسعى إلى قطع الطريق الدولي الذي يربط بين مدينتي الرقة ودير الزور في محاولة لـ"حصر" مقاتلي "داعش" في مدينة الرقة، وقطع أهم طرق إمداده من دير الزور ومنها إلى غربي العراق. واعترفت المصادر أن مهمة "قسد" ستكون "صعبة للغاية"، مرجحة أن تواجه "مقاومة شرسة" من تنظيم بدأ وجوده يتعرض لتهديد جدي هذه المرة، ولديه مراكز مهمة في الريف الذي يفصل الرقة عن دير الزور.
وكشفت المصادر، والتي فضّلت عدم الإشارة إلى اسمها أو صفتها، أن الأيام المقبلة "حبلى" بالعديد من التطورات التي "ستغيّر استراتيجية القتال، والقوات التي ستقوم بالتنفيذ"، مشيرة، في حديث مع "العربي الجديد"، إلى أن مهمة "قوات سورية الديمقراطية" ستنتهي عند هذا الحد، لتدخل قوات جديدة بديلة عنها أكثر تدريباً وتسليحاً. وأكدت المصادر أن الأميركيين أوقفوا كل أشكال الدعم العسكري لـ "غضب الفرات" باستثناء الإسناد الجوي، مشيرة إلى أن وزارة الدفاع الأميركية ستستغني عن خدمات كثير من القوات المشاركة في العملية، وتزيد من قوات دول أخرى. ولم تستبعد المصادر أن تشارك قوات أردنية، وخليجية، وفرنسية في عمليات واسعة النطاق يجري الإعداد لها لانتزاع السيطرة على محافظتي الرقة، ودير الزور من يد "داعش"، مرجحة أن تتقدم قوات المعارضة مع قوات تركية جنوب نهر الفرات للسيطرة على الريف الغربي، ومن ثم مدينة الطبقة (50 كيلومتراً غربي الرقة). كما لم تستبعد المصادر أن تتقدم قوات تابعة للنظام السوري، وروسيا من محور السخنة– أثريا جنوب غربي الرقة، مشيرة إلى أن الخطة الجديدة "ستتوضح نهاية الشهر الحالي".
وكانت صحيفة "واشنطن بوست" قد كشفت، الخميس الماضي، أن إدارة الرئيس الأميركي الجديد، دونالد ترامب "تخلت تماماً" عن خطة الإدارة السابقة لانتزاع السيطرة على مدينة الرقة. وأكدت الصحيفة أن مستشاري ترامب وجدوا أن "خطة أوباما" غير متكاملة، وغير كاملة، وتتضمن "ثغرات"، مشيرة إلى أن وزارة الدفاع الأميركية تدرس "خيارات عديدة" لمهاجمة مدينة الرقة. ومن المرجح أن تراعي الخطة الجديدة مسألة التنسيق مع الجانب الروسي، والقيام بعمليات قصف جوي مشتركة، وتفهّم "القلق التركي" من تمدد الوحدات الكردية، والتي تصنفها أنقرة ضمن "الجماعات الإرهابية"، في شمال وشرقي سورية بذريعة محاربة "داعش".