تدل استطلاعات الرأي والحرب التي تشتعل شيئاً فشيئاً بين مكوّنات اليسار الفرنسي، الاشتراكي وغيره من الشيوعيين والراديكاليين والإيكولوجيين، على أن اليسار لن يكون حاضراً في الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية الفرنسية في العام المقبل.
مشهد اليسار الفرنسي غير مسبوق، من كل الجوانب. ليس فقط لأن الرئيس الحالي فرانسوا هولاند قرر ألا يترشح ثانية، بل أيضاً لأن وحدة اليسار، التي قادت فرانسوا ميتران للفوز بالرئاسة خلال ولايتين انتخابيتين، منعدمة تماماً. ويكشف المشهد اليساري عن وجود مرشح من اليسار غير الاشتراكي مدعوم بقاعدة الحزب الشيوعي، لكن بشروط، وآخَر من الحزب الإيكولوجي، ومرشحة ثالثة من الحزب الراديكالي لليسار، عبّرت أخيراً عن رغبتها في المشاركة في الانتخابات الفرعية لليسار، وآخَريْن يمثلان أقصى اليسار المتطرف، إضافة إلى تعدّد مرشحي الحزب الاشتراكي وبعض الأحزاب الصغرى الدائرة في فلكه، الذين قرروا الاحتكام إلى انتخابات فرعية لاختيار واحد منهم يتبارى مع باقي المرشحين.
ولا أحد يشك في أن النقاشات المقبلة بين مرشحي اليسار ستكون بالغة القسوة والعنف، وسيستخدمها مرشّحو اليمين واليسار غير الاشتراكي، مستقبلاً. ولكن ما هو أخطر من كل هذا، هو مستقبل الحزب الاشتراكي الفرنسي، نفسه، الذي يقبع في وضع بالغ السوء. الحزب الذي يجب عليه، في حالة فوز مرشح اليمين بالانتخابات الرئاسية، وهو ما يتوقعه الجميع حالياً، أن يخفف من هول الهزيمة "المعلنة" بإيصال أكبر قدر من ممثليه إلى مجلسي النواب والشيوخ.
فوضى المرشحين
تمنح استطلاعات الرأي، على الرغم من أخطائها الكثيرة، في الوقت الراهن، بعض التقدّم للوزير السابق إيمانويل ماكرون، بنسبة 33 في المائة من الأصوات، في حين يحصل رئيس الوزراء السابق مانويل فالس على 27 في المائة والوزير السابق آرنو مونتبورغ على 18 في المائة، بينما يحصل الوافد الجديد فانسان بيون على 5 في المائة. في حين أن 23 في المائة من الناخبين، وفق الاستطلاع، سيصوتون على الأرجح لصالح مرشح اليسار غير الاشتراكي، جان لوك ميلونشون.
كل هذا يقود إلى سؤال من سيترشح في الانتخابات الفرعية التي سينظمها اليسار، يومي 22 و29 يناير/كانون الثاني 2017؟ بعد تأكد مشاركة كل من مونتبورغ وبنوا هامون وماري نويل لينمان ومانويل فالس وفرانسوا دي روجي وجان لوك بينامياس وسيلفيا بينيل، أعلن فانسان بيون عن رغبته في المشاركة في هذه الانتخابات. ويتميز هذا القيادي، الذي شغل منصب وزير التربية سابقاً، بتموضعه بين اليسار الناقد للحزب، كما مونتبورغ وهامون ولينمان، وبين الخط الاجتماعي الليبرالي الذي يمثّله مانويل فالس.
كما أن ثمة مرشحين آخرين ينوون الترشح، ولكن تنقصهم الاعتمادات والضمانات الكافية، وإن كان كريستوف بورجيل، رئيس اللجنة الوطنية لتنظيم الانتخابات الفرعية، عبّر عن رغبته في ألا يتجاوز عدد المرشحين سبعة أشخاص، كما كان عليه حال في الانتخابات الفرعية لليمين والوسط.
استهداف فالس
ويبدو مرشحو الحزب الاشتراكي، الذين سيخوضون الانتخابات الفرعية، مُجمعين تقريباً، على استهداف مانويل فالس، ويكاد شعار "كل شيء ما عدا فالس" يخرج للعلن. ولم يكن تصريح مونتبورغ وهو يطالب الناخب الاشتراكي بهزيمة هولاند، غير المرشح، زلة لسان. بل كان يُحمّل رئيس حكومته مانويل فالس ما يعتبره فشل خمس سنوات من الحكم الاشتراكي. وليس من مهرب لفالس سوى الدفاع عن حصيلة عهد هولاند، على الرغم من أن خطاب ترشحه حاول أن يُظهر فيه للجمهور "فالس جديداً"، إلا أن الحقيقة كانت واضحة، كما كتب دونيس سييفير، مدير مجلة "بوليتيس" أمس الخميس، قائلاً: "كانت ثمة إشارة مشتركة بين الخطابين، خطاب الإليزيه وخطاب إيفري (البلدة التي ألقى منها فالس خطابه)، على الرغم من أنهما يبدوان مختلفين. الأول كان يُعبّر عن انتهاء عهد، والثاني كان مُشبَعاً بالأضواء الاصطناعية، لكنّ كليهما لم يسمعانا أي تشكيك في السياسة النيوليبرالية". وأضاف: "يغادر هولاند في جو من عدم الفهم، ويواصل فالس في سياسة النفي والإنكار. وإذا كان شعب اليسار تخلى عنهما، فهو خطأ شعب اليسار. إنّه عمى رهيب. على الرغم من أنّ ندم فالس يبدو تنازلاً تكتيكياً، حتى لا نقول انتخابياً".
ولا يستطيع فالس، الذي يعلن في كل مناسبة أنه ظل وفياً لرئيسه حين تخلى عنه العديدون، أن يقنع الكثيرين بدعمه باعتباره وريثاً للرئيس، خصوصاً من المقربين من هولاند، الذين يعترف أحدهم بأن "فالس عرف في بضعة أشهر كيف يقطع الطريق أمام رئيس، لا يختلف مستوى انهيار شعبيته كثيراً عن مستوى رئيس حكومته". وهو ما عبّر عنه اجتماع لرجالات هولاند بالقول: "لن يكون ثمة دعم تلقائي لفالس"، ما يعني أن كثيرين منهم قد يلتحقون بالمرشح الجديد فانسان بيون، في حين أن آخرين عبّروا علانية ومباشرة بعد تخلي هولاند عن الترشح، عن دعمهم لإيمانويل ماكرون.
من جهة أخرى، ليس خفياً قلق اليمين من طروحات مانويل فالس، الذي تمنى الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي، يوماً، لو كان هذا الرجل في حكومته، وقد وعد اليمين المتطرف بمنحه بطاقة عضوية على الفور. وقلق اليمين من فالس، الذي قد ينجح في مغازلة شرائح في اليمين، خلافاً لكل منافسيه في الحزب الاشتراكي واليسار، دفع مجلة "فالور أكتيال" الأسبوعية اليمينية، في عددها أمس الخميس، لتكريس الغلاف لفالس تحت عنوان: "مانويل فالس الرهيب: عدواني، متعصب وعلماني، الوجه الحقيقي للملجأ الأخير لليسار". وجاء في المقال أن "فالس الذي نجح في خلق الشروط التكتيكية لحضوره في الانتخابات الفرعية، عبر دفع هولاند للتنحي، يبقى أمامه ما هو أصعب، وهو كيفية جعل الفرنسيين ينسون من يكون. أي وضع حد للفالسيّة، من أجل التأقلم مع تيارات الحزب الاشتراكي والنجاح في فرض قاسم مشترك".
ويبدو وضع اليسار الفرنسي، الاشتراكي وغير الاشتراكي، قاتماً قبل خمسة أشهر من الانتخابات الرئاسية، وجاء خروج رئيس الوزراء الإيطالي اليساري ماتيو رينزي من الحكم بعد الاستفتاء الإيطالي، ليزيده قتامة، وربما لن يخفف من وطأته إلا بصيص الأمل في أن تخطئ استطلاعات الرأي، مرة أخرى.