نأت المؤسسة العسكرية في الجزائر بنفسها عن السجال السياسي الدائر بشأن غموض الموقف في أعلى هرم السلطة. وردت برفضها تجاوز الجيش حدود صلاحياته الدستورية، أو الإقدام على أية خطوة سياسية في هذا السياق، رداً على مطالبات قوى وشخصيات سياسية ومدنية لها بالتدخل لوقف ما تعتبره هذه الأطراف "انهيار الدولة" وهيمنة "الكارتل" المالي على الحكم في البلاد. وظهرت نشوة سياسية كبيرة على أنصار الرئيس الجزائري، عبد العزيز بوتفليقة، بعد تصريحات قائد أركان الجيش الجزائري، الفريق أحمد قايد صالح، الرافضة لأي دور للجيش في المشهد السياسي، والتزامه بحدود مهامه الدستورية كحامٍ للبلاد، برغم أن مضمون هذه التصريحات مكرر في مجمل تصريحات وخطابات قائد الجيش السابقة. وتجلت نشوة البوتفليقيين في المسارعة إلى نشر تصريحات قايد صالح على نطاق واسع، كرد مباشر على المطالبين بما يشبه "الانقلاب"، أو الدخول على خط رفض الوضع الرئاسي الراهن. وقال قايد صالح، في لقاء مع قيادات عسكرية ميدانية، بحسب بيان لوزارة الدفاع الوطني نشرته أمس الخميس، إن "الجيش لا يحيد أبداً عن القيام بمهامه الدستورية مهما كانت الظروف والأحوال، وسيظل أيضاً مثابراً على تطوير قدراته، مرابطاً على الثغور، راعياً لمهامه ومعتنياً بمسؤولياته، ومقدراً لحجم واجبه الوطني". وشدد قائد الأركان على أن الجيش سيلتزم حدود مهامه الرئيسية من دون أي دور سياسي، موضحاً: "سيظل الجيش مثلما أكدنا على ذلك مراراً وتكراراً، جيشاً جمهورياً ملتزماً بالدفاع عن السيادة الوطنية وحرمة التراب الوطني". واستعار قايد صالح من بيان رسالة رئاسية أخيرة، قائلاً "يمكن للشعب الجزائري أن يرتكز بأمان على الجيش عندما يتعلق الأمر بالحفاظ على أمن البلاد ومواطنيها، والحفاظ على سلامة التراب الوطني".
لكن ورغم أن توصيفاً كهذا يتطابق مع واقع الحال بشكل كبير، إلا أن الكثير من القرارات والتحليلات لا تستبعد استمرار قيام الجيش بدور فاعل ومهم في مؤسسة الحكم في الجزائر، خصوصاً بالنظر إلى طبيعة النظام السياسي الجزائري المركب منذ انقلاب الجيش على الحكومة المؤقتة في صيف عام 1962، عشية استقلال الجزائر، واستمرار ضعف المؤسسات السياسية الدستورية الأخرى، كالحكومة والبرلمان والمؤسسة الحزبية المشكلة للمشهد السياسي. ويعتقد المحلل السياسي، أحسن خلاص، أن "وجود الجيش في الخلفية السياسية جزء من طبيعة النظام نفسه. في الجزائر الجيش هو الذي شكل الدولة وليس العكس. ويظل الجيش العمود الفقري للنظام القائم، لكنه لا يحب الواجهة"، في إشارة إلى دور محوري مستمر للجيش في الحكم في البلاد، بحكم طبيعة تشكل النظام السياسي في الجزائر، والذي انبثق عن ثورة التحرير، وورث فيها جيش التحرير، الذي تحول لاحقاً إلى جيش نظامي، الدولة ومؤسساتها. ويضيف خلاص "لا بد من التفريق بين الجيش كمؤسسة وأفراد نافذين في قيادة الجيش الذين يتابعون الشأن السياسي عن كثب، وظِلهم قائم في التوجهات والقرارات الكبرى للدولة. ليست المرة الأولى التي ذكر فيها الجيش بموقعه ومهامه الدستورية في خارطة الدولة ككل. مرة يكون تدخله كرد فعل على دعوات للتدخل المباشر، ومرة يكون متناسقاً مع الظرف، وهو ما يحدث الآن". ويربط خلاص بعض المطالبات السياسية والمدنية للجيش بالتدخل لكون "الكثيرين يظنون أن الجيش هو الوحيد القادر على تحريك الأمور وتطبيق المادة 102 أمام صمت المجلس الدستوري، لكن إذا تدخل الجيش فإن الأمر يعد انقلاباً كامل الأركان. وتلك رسالة مشفرة إلى المؤسسات الأخرى بأنه إذا أرادت القيام بدورها الدستوري فإن الجيش لا يملك إلا موافقتها واحترام قراراتها".