وقبل أيام، اتهم رئيس لجنة حماية سيادة الدولة في مجلس الاتحاد (الشيوخ) أندريه كليموف، الولايات المتحدة ومؤيديها بمحاولة التأثير على انتخابات المجلس المحلي في مدينة موسكو، من خلال "تنظيم الاستفزازات"، مؤكداً وجود مؤشرات على التدخل الخارجي في الاحتجاجات الأخيرة بالعاصمة الروسية. بدورها، أشارت النائب ليودميلا بوكوفا، وهي عضو في اللجنة ذاتها، إلى أنّ الأخيرة رصدت "ظهور منشورات تضمنت وصفاً مفصلاً لمسارات التظاهرات الاحتجاجية التي جرت في موسكو، قبل انطلاقها، على عدد من الصفحات الإلكترونية التابعة لسفارات دول أجنبية"، معتبرةً أنّ هذه المنشورات تُمكِن قراءتها على أنها تدخل في شؤون روسيا الداخلية، وتحديداً في العملية الانتخابية في البلاد. وكشفت أنّ لجنة حماية سيادة الدولة تخطط لدعوة سفراء هذه الدول لحضور اجتماع لها، سيعقد في مطلع سبتمبر المقبل، لمساءلتهم.
ومع استمرار التظاهرات على الرغم من القمع غير المسبوق من قبل السلطات، وجدت الأخيرة ضالتها في التدخل الأجنبي، فمن جهة تستطيع ردّ الصاع صاعين للاتهامات بتدخل روسيا في الانتخابات الأميركية والأوروبية، ومن جهة أخرى تشوّه سمعة المعارضة باتهامها بالعمالة لـ"أعداء الوطن"، غير آبهة بالفرق بين تدخل في الانتخابات الرئاسية الأميركية وبين انتخابات مجلس محلي لا نفوذ سياسياً له، إن صحّت أصلاً قضية التدخل.
واللافت أنّ المبادرة لتشكيل لجنة برلمانية خاصة لمناقشة التدخلات الأجنبية طرحت للمرة الأولى من زعيم حزب "روسيا العادلة" المعارض، ورئيس كتلته البرلمانية سيرغي ميرونوف في السادس من أغسطس/آب الحالي. وقال حينها حول التظاهرات في الثالث من الشهر ذاته، إنه "كانت هناك جهات أجنبية من هذا البلد أو ذاك تدعم هذه التظاهرات وتنظمها"، مضيفاً: "سنتولّى التحقيق بما يحصل هنا في بلادنا، ولن نسمح لأي طرف بالتدخل في شؤوننا الداخلية". وحازت تصريحات ميرونوف على دعم زعماء حزب "روسيا الموحدة" الحاكم، والحزبين الشيوعي الروسي والليبرالي الديمقراطي المعارضين.
وإضافة إلى الحملة على "التدخّل الأجنبي في الانتخابات ودعم التظاهرات"، وفي ظلّ غياب استراتيجية موحدة، وزّعت الهيئات والوزارات ووسائل الإعلام التابعة للكرملين الأدوار في ما بينها.
ويبدو أنّ التوجه العام يتجه بالدرجة الأولى نحو اعتقال قادة المعارضة الليبرالية. والملاحظ أنّ أجهزة الأمن والحرس الوطني حرصت على منع التظاهرات وتفريقها. وتم توجيه اتهامات للمحتجين بالمشاركة في تظاهرات غير مرخص لها وإثارة الشغب وتقويض الأمن العام، في تهم قد يصل حكمها إلى 12 عاماً من السجن. وتهدف هذه الخطوات إلى شرذمة المعارضة وعدم مشاركة فئات أوسع في التظاهرات ضدّ السلطات.
وفي مقابل قمع تظاهرات المعارضة "المأجورة للخارج"، سمحت السلطات للمعارضة "الوطنية" بالتظاهر في وسط موسكو. ومنذ يومين، خرج زعيم الحزب الشيوعي الروسي غينادي زوغانوف مرتدياً سترة حمراء عليها علامة "نايك"، ليلقي خطاباً نارياً أمام نحو أربعة آلاف من أنصاره، داعياً إلى تنظيم انتخابات نزيهة، ومنتقداً "التوجه الرأسمالي في البلاد الذي تسبب في زيادة أعداد الفقراء وتراجع مستوى الحياة للمواطنين الروس". وللمقارنة، وصل عدد المشاركين في تظاهرات المعارضة الليبرالية في 10 أغسطس الحالي إلى نحو 60 ألفاً، حسب تقديرات المؤسسة ذاتها (وايت كاونتر) التي أحصت تظاهرة الشيوعيين، مع ملاحظة مهمة وهي أنّ معظم المشاركين في تظاهرات المعارضة الليبرالية من الشباب، بينما تغلب فئة المتقاعدين على تظاهرات الحزب الشيوعي.
ومع ازدياد فترات اعتقال زعيم المعارضة أليكسي نافالني في السنتين الأخيرتين، والذي يقضي الآن حكماً بالسجن حتى نهاية الشهر الحالي، جدّدت السلطات أوّل من أمس الأحد اعتقال المرشّح المرفوض لبرلمان موسكو، إيليا ياشين، لحظة خروجه من السجن بعد أدائه عقوبة سابقة، واقتادته إلى مكان آخر بتهمة الدعوة إلى تظاهرات في 17 و18 من الشهر الماضي. ولا يستبعد خبراء أن تلجأ السلطات الروسية إلى إجراءات أشدّ بحق نافالني، بسجنه سنوات عدة، خصوصاً بعد توجيه تهم له بتلقي دعم خارجي لتمويل صندوق محاربة الفساد الذي يشرف عليه المعارض الليبرالي. وكشف الصندوق في السنوات الأخيرة عن ثروات طائلة للمسؤولين المقربين من الرئيس فلاديمير بوتين، ومن ضمنهم رئيس الوزراء دميتري ميدفيديف، ورئيس الحرس الوطني فيكتور زولوتوف. وفي السياق، رأت الباحثة المشاركة في مركز "كارنيغي" تاتيانا ستانوفيا، في رأي سابق لها، أنّ "عملية التسميم المفترضة للمعارض نافالني ربما تكون بمثابة إنذار شخصي قوي".
وفي محاكاة للتجربة السورية في التعامل مع التظاهرات، وبهدف زيادة تشويه سمعة "المعارضة غير المسؤولة"، راجت نظرية "المؤامرة"، في وقت دخلت الخارجية الروسية على الخط الأسبوع الماضي، واستدعت دبلوماسياً أميركياً على خلفية نشر خط سير التظاهرات في العاصمة موسكو على موقع البعثة الدبلوماسية الأميركية. كذلك استدعت الخارجية دبلوماسياً ألمانياً لتوجيه مذكرة احتجاج على دعم المعارضة. لكن معارضين روساً أشاروا إلى أن إعلان السفارة الأميركية في موسكو في الثالث من الشهر الحالي كتب باللغة الإنكليزية، وحذرت السفارة فيه رعاياها من الاقتراب من التجمعات حفاظاً على أمنهم. وكانت الناطقة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا، اتهمت أيضاً سفارات ومؤسسات إعلام غربية بتوجيه المتظاهرين وتمويلهم.
وفي إنكار للأوضاع المستجدة، لم يعقد مجلس الأمن الروسي أي اجتماع مخصص لبحث التظاهرات في موسكو، وكان موضوع الانسحاب من معاهدة الصواريخ متوسطة وقصيرة المدى وحرائق سيبيريا على جدول أعمال آخر اجتماع لهذا المجلس. ويبدو أنّ إدارة الكرملين والمقربين من بوتين يسعون إلى عدم إزعاج الرئيس بأي تقارير تشير إلى تراجع شعبيته، أو تغير في المزاج العام، علماً أنّ آخر استطلاعات للرأي كشفت أن 43 في المائة من الروس فقط مستعدون للتصويت له، وهي أدنى نسبة تأييد منذ 2001.
وفي تغطيتها للأحداث في موسكو، ركزت وسائل الإعلام الموالية للكرملين على المتظاهرين المشاغبين الذين يهاجمون رجال الشرطة والحرس الوطني، ووجود مشاركين من خارج موسكو في الاحتجاجات، وذلك سعياً لتثبيت حقيقة أنّ المتظاهرين لا يمثّلون أبناء العاصمة، وأنّ الحشد ليس كبيراً طالما تمّ إحضار "مأجورين" من أقاليم ومقاطعات روسية أخرى.
ويبدو أنّ مؤسسات القرار في موسكو، تفضّل اللجوء إلى الإنكار، وتحميل طرف ثالث المسؤولية عن السخط الشعبي المتصاعد بسبب تراجع الأوضاع المعيشية، وتباطؤ النمو الاقتصادي بعد العقوبات الغربية، ورغبة الروس في تحسن أوضاعهم الداخلية بغضّ النظر عن موقعهم العالمي كقوة عظمى. كما تتجاهل النخب الحاكمة الحالية أنّ انسداد الأفق السياسي سوف يفتح على صراع مع الأجيال الجديدة من الطبقة الوسطى والمتعلمين، والتي خرجت إلى الشوارع للاحتجاج، رافعةً مطالب سياسية واضحة، بعدما اقتصرت التظاهرات في السنوات الثلاث الأخيرة على قضايا مطلبية، وضدّ رفع السن التقاعدي والأوضاع البيئية. كذلك، فإنّ الاحتجاجات السابقة كانت تطالب بوتين بالتدخل لإبطال قوانين، أو التدخل لحلّ مشكلة ما، لكنّ الواضح أن الاحتجاجات الجديدة ضاقت ذرعاً بكل السلطات بما فيها سلطة الرئيس.
وواضح أيضاً أنّ السلطات يمكن أن تضعف الاحتجاجات الحالية، لكن المؤكد أنّ الاستمرار في حال الإنكار ورمي التهم على أطراف خارجية لن يفلح في إنهاء أزمة بدأت تكبر. فالأوضاع في روسيا بعد عشرين عاماً على حكم بوتين، باتت أقرب إلى أجواء عام 1905 عند اندلاع الاحتجاجات ضدّ القيصر نيكولا الثاني، وفي أفضل حال، فإنها تحاكي فترة الركود التي شهدتها روسيا في حقبة الزعيم السوفييتي ليونيد بريجنيف (1964- 1982). ومعلوم أنّ كلتا الحالتين أسستا لتغيرات جذرية تمثلت في ثورة 1917، وسياسة الانفتاح المتأخر التي تبناها الرئيس الأسبق ميخائيل غورباتشوف وانتهت إلى انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991.