يخصص كتاب "استراتيجية الجيش الإسرائيلي في منظور الأمن القومي" حول وثيقة الاستراتيجية للجيش الإسرائيلي التي نشرها رئيس الأركان، الجنرال غادي أيزنكوت، البابَ الرابع منه، لمسألة علاقة الجيش بالمجتمع والمكانة والدور، أو لما يُسمَّى بالجبهة الداخلية، وما هو المطلوب من الجيش في هذا السياق. ويمكن القول إن الفصل الرابع كان من أكثر الفصول الثلاثة السابقة والتي تناولت الأبعاد الاستراتيجية والسياسية والعسكرية، نقداً للوثيقة، خصوصاً في ظل إبراز حقيقة أن الجيش الإسرائيلي أكثر من أي جيش آخر في العالم يعتمد على التجنيد الإلزامي ويفرض الخدمة العسكرية الإلزامية (مدتها ثلاث سنوات) على المواطن (باستثناء العرب والحريديم). وبالتالي، فإنه يفترض أن تكون وثيقته الاستراتيجية أكثر شمولية للعلاقة المتبادلة بين الجيش كمؤسسة عسكرية نظامية وبين المجتمع الذي يوفر له جنوده، وفق المفهوم الإسرائيلي، "جيش الشعب".
وعلى هذا الأساس، جاءت القراءة النقدية لتعيب على الوثيقة افتقارها إلى مجمل الأبعاد والجوانب الـ"إشكالية" في ما يتعلق بالجبهة الداخلية، إذ تحدد الوثيقة دور الجيش في هذا المجال، بحسب ما جاء في الكتاب، من خلال حماية الجبهة الداخلية من دون أن يأخذ أي مسؤولية أو مهام ذات طابع مدني في الدفاع عنها، أو أي مبادرة أو مسؤولية في بلورة وضمان جاهزية الجبهة الداخلية لحالات الطوارئ أو في ساعات الأزمة. ويكتفي الجيش بالدور العسكري المتمثل بحماية الحدود وتوفير ضمانات عسكرية وردود للضربات الصاروخية.
وانتقل الجيش الإسرائيلي بعد ستين عاماً من تأسيسه من مرحلة وشعار "جيش الشعب" إلى "الجيش المهني"، بما يشي بتغيير مجمل العلاقات المتبادلة بين المؤسسة العسكرية وبين المجتمع الإسرائيلي، وفق ما يذهب إليه البريغدير جنرال مئير إلران في مقالته حول "كيف ينظر الجيش لدوره في المجتمع". ويؤكد إلران أن وثيقة أيزنكوت تكشف منظوراً عسكرياً ضيقاً يتلخص في المهام العسكرية المطلوبة من الجيش، وهي حماية المجتمع ككل من خطر الغزو، وحماية الحدود وصد الهجمات الصاروخية.
ويرى أن هذه النظرة تتناقض كلياً مع العقيدة السائدة في قيادة "الجبهة الداخلية" التي تؤكد على موقف أكثر تفاعلاً مع المجتمع، وبكون قيادة الجبهة الداخلية جهة عسكرية تشارك بشكل فعال في إدارة المهام المدنية الصرفة ذات البعد الأمني. وبالتالي، فإن ما ورد في وثيقة أيزنكوت يشكل عملياً تراجعاً في مدى التزام الجيش وواجباته مقارنة بما تقوم به الجبهة الداخلية وبما يتوقعه المجتمع الإسرائيلي من دور الحماية والشراكة بينه وبين الجيش لجهة مشاركة الجيش ليس فقط في توفير الحماية للمجتمع ككل في ساعات الحرب وحالات الطوارئ، وإنما في عملية بناء وإنجاز جهوزية المجتمع لساعات الطوارئ. وهذا يعني أيضاً تراجع الجيش عن دوره كطرف مؤثر في بلورة معالم وتوجهات المجتمع في إسرائيل، وفي سياق تطوير وبناء المناعة الاجتماعية والمدنية، وهو السياق الذي تؤدي فيه قيادة الجبهة الداخلية، حالياً، دوراً ملموساً وبارزاً.
أما الباحث في مركز أبحاث الأمن القومي، ستيورات كوهين يرى في قراءته لتقليص حجم "التفاعل" بين الجيش والمجتمع إلى الحد الأدنى من المهام العسكرية المتمثلة في ضمان الأمن العام في حالات الطوارئ، أن الوثيقة تطرح عملياً خطوطاً وقواعد جديدة بعيدة الأثر في مجمل العلاقة بين الجيش والمجتمع. ونُصب نوع من "الجدار الناري" بين الطرفين، ووضع حد للعلاقة بينهما من خلال تحوّل الجيش لمؤسسة عسكرية مهنية تقوم بينه وبين المجتمع العام حدود وحواجز محكمة خلافاً للوضع الذي كان سائداً.
ووفقاً للوثيقة الجديدة، يعتبر كوهين، أن الجيش يتنازل عن دوره بأن يكون شريكاً رئيسياً في بلورة المجتمع على غرار القاعدة المعروفة "شعب يبني جيشاً وجيش يبني شعباً" التي وضعها قائد سلاح التربية في الجيش بين عامي 1999-2004، الجنرال العزار شطيرن، سعياً إلى تكريس إدارة ذاتية للجيش في السياق المهني، وتقليص حجم تأثير المجتمع (وأهالي الجنود على العمليات القتالية والميدانية للجيش)، والتخلص من ضغوط المجتمع على الجيش. ويشير الكاتب في هذا السياق إلى أن رئيس الأركان الإسرائيلي الأسبق، أمنون ليفكين شاحاك، كان أول من أعلن أن "هذه العلاقة المباشرة بين المجتمع والجيش التي كانت في الماضي أحد مصادر قوته أصبحت تعيق عمل الجيش وغير موضوعية في أحيان كثيرة وخانقة".
اقــرأ أيضاً
ويكشف أن السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين، شهدت تصعيداً في حجم ومدى تأثير هذه العلاقة على نشاط الجيش العسكري، وإن كان في البداية عبر قضايا جانبية لا تتعلق بالعمل العسكري الميداني. إلا أن هذا الاتجاه تعاظم تدريجياً مع فتح الجيش أمام استيعاب مدنيين في جهازه، ومختلف وحداته غير القتالية. وتبين لقادة الجيش خلال وقت قصير من هذا الانفتاح أن المناخ الاجتماعي المتغير في العلاقة بين الجيش والمجتمع تعمَّق أكثر إلى حد التأثير في نمط عمل الجيش وتنفيذ المهام العسكرية المطلوبة منه على المستوى السياسي.
فقد الجيش، بحسب الكاتب، في كافة المهام والحملات العسكرية التي شنَّها في العقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين، بما في ذلك الانتفاضة الثانية والانسحاب من غزة عام 2005، وفي حرب تموز 2006 على لبنان، وعدوان الرصاص المصبوب، وعامود السحاب والجرف الصامد، بشكل كبير، القدرةَ على تفعيل قواته بالاعتماد فقط على اعتبارات عسكرية. وألزم الجيش ليس فقط بأخذ اعتبارات المستوى السياسي والقانون الدولي بالحسبان، وإنما المناخ العام السائد في المجتمع.
كما تجلى ذلك في وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعية المختلفة (سواء لجهة عدم استخدام القوة المفرطة من قبل اليسار أم لجهة مطالبته بتشديد قبضته من جهة اليمين). ودفع هذا المناخ وتأثيراته المختلفة النابعة عن "المناخ العام" بقادة الجيش إلى توجيه أصابع الاتهام لهذا المناخ باعتباره المسؤول عن فشل الجيش في تحقيق "حسم عسكري كامل وواضح".
ويوضح كوهين أن الادعاء بوقوع الجيش في السنوات الأخيرة تحت تأثير "هذا المناخ المجتمعي" الذي يريد ويتوقع من جيش الاحتلال حرباً من دون مصابين وقتلى في صفوفه، تكرر في كثير من تقارير كبار قادة الجيش بمن فيهم رئيس الأركان الحالي أيزنكوت عندما كان نائباً لرئيس الأركان. ويشير إلى أن هذا يدل على أن "غياب أو نسيان" البعد الاجتماعي في علاقة تفاعل مع المجتمع من وثيقة أيزنكوت لم يكن عفوياً بل يعكس توجهاً مقصوداً يرى بالانتقادات التي تُوجَّه للجيش وأدائه أمراً عابراً، وذلك بالاستناد إلى الدعم الذي يمنحه المجتمع الإسرائيلي للجيش في ساعات الحروب والأزمات، كما يتجلى ذلك في استطلاعات الرأي المختلفة.
ويوضح أنه لا يمكن التعامل مع محاولات الجيش، وفق وثيقة أيزنكوت، بالانكفاء لجهة تعزيز "إدارته الذاتية للعمليات والقتال بعيداً عن تأثير الشارع الإسرائيلي"، كحلقة أخرى من سعي الجيش إلى إحباط محاولات المس بميزانيته وحقه بإدارة هذه الميزانية من دون تأثير جهات غير عسكرية. كما يأتي ذلك رداً على توصيات لجنة يوحنان لوكير التي تشكلت عام 2014 للبحث في ميزانية الجيش ووزارة الأمن. ورفض الجيش توصيات هذه اللجنة ولم يقبل بها على الإطلاق.
ويخلص الكاتب إلى القول إن الوثيقة تعكس سعياً لدى قيادة الجيش للاتجاه نحو التحلل والانعتاق من مفهوم وأسطورة "جيش الشعب" بكل تعقيداته الاجتماعية التي تجلت في السنوات الأخيرة في تعاظم تأثير العوامل الاجتماعية (الأهالي، وسائل الإعلام، شبكات التواصل) على "اعتبارات" إدارة المعارك والقتال لصالح الاتجاه لبناء جيش مهني "محصّن" من التأثيرات المجتمعية وقيودها وضغوطها "الخانقة".
اقــرأ أيضاً
وعلى هذا الأساس، جاءت القراءة النقدية لتعيب على الوثيقة افتقارها إلى مجمل الأبعاد والجوانب الـ"إشكالية" في ما يتعلق بالجبهة الداخلية، إذ تحدد الوثيقة دور الجيش في هذا المجال، بحسب ما جاء في الكتاب، من خلال حماية الجبهة الداخلية من دون أن يأخذ أي مسؤولية أو مهام ذات طابع مدني في الدفاع عنها، أو أي مبادرة أو مسؤولية في بلورة وضمان جاهزية الجبهة الداخلية لحالات الطوارئ أو في ساعات الأزمة. ويكتفي الجيش بالدور العسكري المتمثل بحماية الحدود وتوفير ضمانات عسكرية وردود للضربات الصاروخية.
ويرى أن هذه النظرة تتناقض كلياً مع العقيدة السائدة في قيادة "الجبهة الداخلية" التي تؤكد على موقف أكثر تفاعلاً مع المجتمع، وبكون قيادة الجبهة الداخلية جهة عسكرية تشارك بشكل فعال في إدارة المهام المدنية الصرفة ذات البعد الأمني. وبالتالي، فإن ما ورد في وثيقة أيزنكوت يشكل عملياً تراجعاً في مدى التزام الجيش وواجباته مقارنة بما تقوم به الجبهة الداخلية وبما يتوقعه المجتمع الإسرائيلي من دور الحماية والشراكة بينه وبين الجيش لجهة مشاركة الجيش ليس فقط في توفير الحماية للمجتمع ككل في ساعات الحرب وحالات الطوارئ، وإنما في عملية بناء وإنجاز جهوزية المجتمع لساعات الطوارئ. وهذا يعني أيضاً تراجع الجيش عن دوره كطرف مؤثر في بلورة معالم وتوجهات المجتمع في إسرائيل، وفي سياق تطوير وبناء المناعة الاجتماعية والمدنية، وهو السياق الذي تؤدي فيه قيادة الجبهة الداخلية، حالياً، دوراً ملموساً وبارزاً.
أما الباحث في مركز أبحاث الأمن القومي، ستيورات كوهين يرى في قراءته لتقليص حجم "التفاعل" بين الجيش والمجتمع إلى الحد الأدنى من المهام العسكرية المتمثلة في ضمان الأمن العام في حالات الطوارئ، أن الوثيقة تطرح عملياً خطوطاً وقواعد جديدة بعيدة الأثر في مجمل العلاقة بين الجيش والمجتمع. ونُصب نوع من "الجدار الناري" بين الطرفين، ووضع حد للعلاقة بينهما من خلال تحوّل الجيش لمؤسسة عسكرية مهنية تقوم بينه وبين المجتمع العام حدود وحواجز محكمة خلافاً للوضع الذي كان سائداً.
ووفقاً للوثيقة الجديدة، يعتبر كوهين، أن الجيش يتنازل عن دوره بأن يكون شريكاً رئيسياً في بلورة المجتمع على غرار القاعدة المعروفة "شعب يبني جيشاً وجيش يبني شعباً" التي وضعها قائد سلاح التربية في الجيش بين عامي 1999-2004، الجنرال العزار شطيرن، سعياً إلى تكريس إدارة ذاتية للجيش في السياق المهني، وتقليص حجم تأثير المجتمع (وأهالي الجنود على العمليات القتالية والميدانية للجيش)، والتخلص من ضغوط المجتمع على الجيش. ويشير الكاتب في هذا السياق إلى أن رئيس الأركان الإسرائيلي الأسبق، أمنون ليفكين شاحاك، كان أول من أعلن أن "هذه العلاقة المباشرة بين المجتمع والجيش التي كانت في الماضي أحد مصادر قوته أصبحت تعيق عمل الجيش وغير موضوعية في أحيان كثيرة وخانقة".
ويكشف أن السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين، شهدت تصعيداً في حجم ومدى تأثير هذه العلاقة على نشاط الجيش العسكري، وإن كان في البداية عبر قضايا جانبية لا تتعلق بالعمل العسكري الميداني. إلا أن هذا الاتجاه تعاظم تدريجياً مع فتح الجيش أمام استيعاب مدنيين في جهازه، ومختلف وحداته غير القتالية. وتبين لقادة الجيش خلال وقت قصير من هذا الانفتاح أن المناخ الاجتماعي المتغير في العلاقة بين الجيش والمجتمع تعمَّق أكثر إلى حد التأثير في نمط عمل الجيش وتنفيذ المهام العسكرية المطلوبة منه على المستوى السياسي.
فقد الجيش، بحسب الكاتب، في كافة المهام والحملات العسكرية التي شنَّها في العقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين، بما في ذلك الانتفاضة الثانية والانسحاب من غزة عام 2005، وفي حرب تموز 2006 على لبنان، وعدوان الرصاص المصبوب، وعامود السحاب والجرف الصامد، بشكل كبير، القدرةَ على تفعيل قواته بالاعتماد فقط على اعتبارات عسكرية. وألزم الجيش ليس فقط بأخذ اعتبارات المستوى السياسي والقانون الدولي بالحسبان، وإنما المناخ العام السائد في المجتمع.
ويوضح كوهين أن الادعاء بوقوع الجيش في السنوات الأخيرة تحت تأثير "هذا المناخ المجتمعي" الذي يريد ويتوقع من جيش الاحتلال حرباً من دون مصابين وقتلى في صفوفه، تكرر في كثير من تقارير كبار قادة الجيش بمن فيهم رئيس الأركان الحالي أيزنكوت عندما كان نائباً لرئيس الأركان. ويشير إلى أن هذا يدل على أن "غياب أو نسيان" البعد الاجتماعي في علاقة تفاعل مع المجتمع من وثيقة أيزنكوت لم يكن عفوياً بل يعكس توجهاً مقصوداً يرى بالانتقادات التي تُوجَّه للجيش وأدائه أمراً عابراً، وذلك بالاستناد إلى الدعم الذي يمنحه المجتمع الإسرائيلي للجيش في ساعات الحروب والأزمات، كما يتجلى ذلك في استطلاعات الرأي المختلفة.
ويوضح أنه لا يمكن التعامل مع محاولات الجيش، وفق وثيقة أيزنكوت، بالانكفاء لجهة تعزيز "إدارته الذاتية للعمليات والقتال بعيداً عن تأثير الشارع الإسرائيلي"، كحلقة أخرى من سعي الجيش إلى إحباط محاولات المس بميزانيته وحقه بإدارة هذه الميزانية من دون تأثير جهات غير عسكرية. كما يأتي ذلك رداً على توصيات لجنة يوحنان لوكير التي تشكلت عام 2014 للبحث في ميزانية الجيش ووزارة الأمن. ورفض الجيش توصيات هذه اللجنة ولم يقبل بها على الإطلاق.
ويخلص الكاتب إلى القول إن الوثيقة تعكس سعياً لدى قيادة الجيش للاتجاه نحو التحلل والانعتاق من مفهوم وأسطورة "جيش الشعب" بكل تعقيداته الاجتماعية التي تجلت في السنوات الأخيرة في تعاظم تأثير العوامل الاجتماعية (الأهالي، وسائل الإعلام، شبكات التواصل) على "اعتبارات" إدارة المعارك والقتال لصالح الاتجاه لبناء جيش مهني "محصّن" من التأثيرات المجتمعية وقيودها وضغوطها "الخانقة".