الرئيس الرياضي الحازم
على عكس الزعماء السوفييت الذين سبقوه (باستثناء ميخائيل غورباتشوف)، خطف بوتين عند انتخابه للمرة الأولى (7 مايو 2000) الأضواء بسرعة؛ نظراً لسنه الصغير وقتها (47 عاماً)، وشغفه برياضة الجودو المعتمدة على التوازن، وكان مثالاً مغايراً لسلفه بوريس يلتسين المدمن على الكحول، الذي قضى معظم أيام ولايته الثانية في المستشفيات، أو الزعيم ليونيد بريجنيف في آخر أيامه، ويوري أندروبوف وقسطنطين تشيرنينكو اللذين توفيا سريعاً ولم يمكثا طويلاً في حكم الاتحاد السوفييتي. وبعد صعوده المفاجئ إلى رئاسة الوزراء خلفاً للسياسي المخضرم يفغيني بريماكوف في 9 أغسطس/آب 1999، ومع نهاية العام، استلم بوتين الحكم بالوكالة بعد استقالة الرئيس بوريس يلتسين، واستغل أحداث حرب الشيشان الثانية ليرفع أسهمه داخل مؤسسات الجيش والأمن، ويحوز ثقة الروس المتعبين من فوضى سنوات التسعينيات، والخائفين من انهيار دولتهم. ورسم بوتين استراتيجيته في فترته الأولى انطلاقاً من المحافظة على وحدة الأراضي الروسية ومنع النزعات الانفصالية، وفرض سلطة المركز على كامل البلاد. وخارجياً، اعتمد سياسة استعادة هيبة الدولة العظمى وحشد مواطنيه حول هذا الهدف.
ونتيجة تنفيذ سياسة الأرض المحروقة في الشيشان، استطاع بوتين وأد الحركة الانفصالية، لكنّ الثمن كان باهظاً، وعلى الرغم من أنّ الكرملين أعلن انتهاء العمليات العسكرية الأساسية في الجمهورية الانفصالية ذات الغالبية المسلمة على مرحلتين في 2002 و2003، إلا أنّ الإعلان عن النصر النهائي تأخّر كثيراً، وما يزال القوقاز الخاصرة الأضعف لروسيا وساحة خصبة للنشاطات الإرهابية، نظراً لفظائع الحربين الأولى والثانية في الشيشان، ونسب البطالة المرتفعة في جمهوريات القوقاز، وهو ما يظهر بين الفينة والأخرى في عمليات تستهدف الجيش الروسي وقوى الأمن في الشيشان وداغستان وجمهوريات أخرى.
خارجياً، اتسمت ولاية بوتين الأولى بالانفتاح على الغرب. وقد فاجأ بوتين الرئيس الأميركي بيل كلينتون، في منتصف عام 2000، بعرض انضمام روسيا إلى حلف شمال الأطلسي. وفي أحداث سبتمبر/أيلول 2001، دعم بوتين الحملة العسكرية الأميركية على أفغانستان، وعرض المساعدة، وفتح أجواءه للولايات المتحدة. وبعد سنوات على ابتلاعه مرارة خروج بلاده المهين من ألمانيا، خاطب ضابط المخابرات البرلمان الألماني (البوندستاغ)، بصفته رئيساً، مشدداً على خيار روسيا الأوروبي. وبلغة ألمانية تعلّمها أثناء عمله في الاستخبارات، عرض بناء فضاء اقتصادي موحّد من لشبونة إلى فلاديفوستوك (على المحيط الهادئ) وضمان حرية رأس المال فيه.
حرب على الأوليغارشيين
وإذا كانت حرب الشيشان بطاقة عبور بوتين في فترته الأولى، فإنّ الحرب على الأوليغارشيين وحيتان المال كانت شعاره للولاية الثانية، وخاض رجل الاستخبارات معارك قاسية مع أصحاب المليارات الذين تحكّموا في مفاصل السلطة والقرار أثناء حقبة سلفه يلتسين. وفي حين قرر بعضهم الهروب إلى إسرائيل أو "لندن غراد" (لقب للندن نسبة إلى الوجود العالي للروس فيها)، كان السجن بانتظار آخرين، فيما قرر فريق ثالث الانصياع لسلطة بوتين من أجل المحافظة على ثروات جمعت عبر برامج الخصخصة الموصوفة بأنها أكبر عملية نهب منظمة في التاريخ لثروات الاتحاد السوفييتي. وترافقت الحملة مع جهود أخرى؛ من إعادة تنظيم الأمن في البلاد، إلى التخلص من سلطة المافيات، وفرض قوانين الدولة، ما ساهم في تحسين الاقتصاد. لكنّ ضربة الحظ جاءت مع ارتفاع أسعار النفط والخامات، لتبدأ مسيرة الصعود الاقتصادي في روسيا، التي حققت نسب نمو بحدود 7 في المائة سنوياً بين عامي 2000 و2008. ومع تدفق الاستثمارات الغربية بمكونها المالي والتقني إلى روسيا، تحسّنت مستويات المعيشة بشكل ملموس، وبدأت روسيا تسديد ديون الاتحاد السوفييتي وفترة التسعينيات لنادي باريس (تجمّع للدول الدائنة عالمياً)، واستطاعت تشكيل "وسادة أمان" بنحو 600 مليار دولار مكّنتها من التخفيف من التداعيات السلبية للأزمة الاقتصادية العالمية في 2008 و2009.
وظلّ بوتين ممسكاً بالحكم فعلياً ما بين 2008 و2012 عندما انتقل إلى رئاسة الوزراء، في تبادل للأدوار مع صديقه ديمتري مدفيديف الذي انتقل إلى منصب الرئيس في الكرملين. ومع نقله كبار مستشاريه إلى مقره الجديد، انتقل مركز القرار الفعلي إلى الحكومة، وفي الوقت ذاته تجنّب بوتين الانتقادات بسبب تأثيرات الأزمة الاقتصادية والاجتماعية على الروس. كما مرّر تمديد فترة ولايته الرئاسية إلى ست سنوات من أربع سابقاً. وبعد إعلانه العودة إلى الرئاسة، شهدت روسيا أكبر حملة احتجاجات حشدت لها المعارضة الليبرالية في ساحات موسكو وكبريات المدن الروسية بعد اتهام السلطات بتزوير نتائج الانتخابات البرلمانية نهاية 2011. وفي ظلّ عدم وجود شخصيات قوية، وترويض المعارضة، تمكّن بوتين من العودة إلى الكرملين بسهولة في 7 مايو 2012، ولكن وسط عداء غربي هذه المرة، زاده ضمّ شبه جزيرة القرم والتدخل الروسي في شرق أوكرانيا، إضافة إلى استنفاد الاقتصاد إمكانات النمو على الرغم من ارتفاع أسعار النفط، وبروز طبقة جديدة تهيمن على الاقتصاد الروسي من أصدقاء بوتين وزملاء الدراسة أو الخدمة في أجهزة الاستخبارات.
عداء الجوار وإعادة الاتحاد السوفييتي
وبعد ابتعاد روسيا عن محيطها السوفييتي وانشغالها بمشكلاتها العميقة في فترة التسعينيات، سعى بوتين إلى توثيق العلاقات مع بلدان الاتحاد السوفييتي السابق عبر بوابة الاقتصاد، والعلاقات الجيدة مع النخب، لكن سلسلة الثورات الملونة في أوكرانيا وجورجيا وأوزبكستان وقرغيزستان ساهمت في فشل سياسات الكرملين بالتقرب منها. وفي أغسطس/آب عام 2008، ذهبت روسيا إلى شنّ حرب على جورجيا (بعد هجوم عسكري من جورجيا على مقاطعتي جنوب أوسيتيا وأبخازيا)، وكادت تصل دباباتها إلى العاصمة تبليسي، في أول تدخّل من نوعه بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. وخسرت جورجيا إقليمين مهمين (أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا) يشكلان نحو ثلث أراضيها وباتا جمهوريتين انفصاليتين لم تعترف بهما بلدان "الرابطة المستقلة" (تتشكل من 12 جمهورية سوفييتية سابقة) التي ازدادت مخاوفها من استخدام روسيا القوة العسكرية، وتعززت المخاوف بعد أحداث شرق أوكرانيا وضم القرم عام 2014، وبات معظمها يخشى من تدخل روسيا عسكرياً بحجة دعم الأقليات الروسية الموجودة فيها.
وعلاوة على فقدان الحليف السلافي المهم والسند في الجبهة الغربية، أثار التدخل في أوكرانيا عداء الغرب وجرّ سلسلة من العقوبات الاقتصادية والسياسية. مع العلم أنه في بداية هذا التدخل، ازدادت شعبية بوتين إلى أعلى مستوياتها وزادت عن 90 في المائة في ربيع 2014، مع رفع الشعارات القومية واستعادة أمجاد الماضي، لكن تأثير العقوبات كان قوياً على الاقتصاد الروسي ومعيشة الروس، إذ تراجعت المؤشرات الاقتصادية إلى مستويات متدنية، وخسر رجال الأعمال الروس أسواق الاقتراض والاستثمارات الغربية، وبدأ الروبل يفقد قيمته، وتراجع مستوى الدخل الحقيقي للسكان بنحو 10 في المائة في السنوات الخمس الأخيرة. وتلعب كل هذه العوامل دوراً سلبياً اليوم في قدرة روسيا على مواجهة الأزمة الاقتصادية الحالية.
ومع إظهار حرب الأيام الخمسة مع جورجيا في أغسطس/آب 2008، وترهُّل الجيش الروسي وتراجُع قدراته، أعلن الكرملين برنامجاً مرهقاً لإصلاحات الجيش، وإعادة بناء قدراته، وتم تحديث الأسلحة بقيمة وصلت إلى نحو 670 مليار دولار، لتستأثر نفقات الدفاع على نحو ربع الموازنة لسنوات على حساب تراجع تمويل العلوم والصحة وغيرها.
الاقتصاد كعب أخيل بوتين
منذ بداية حكمه، شكّل ارتفاع أسعار النفط سنداً قوياً لبوتين. وساهم اتباع برنامج اقتصادي بالاستعانة بوزير الاقتصاد السابق والرئيس الحالي لمصرف "سبيربانك" غيرمان غريف، بالإضافة إلى وزير المال السابق ورئيس غرفة الحسابات الروسية الحالية ألكسي كودرين، المعروفين بتوجهاتهما الليبرالية، في مضاعفة الناتج المحلي الاجمالي حتى 2008، ولكن الاقتصاد ظلّ معتمداً على واردات النفط والغاز التي زوّدت الخزينة بنحو ثلثي وارداتها، وباتت "غازبروم" عصا بوتين في وجه أوروبا لسنوات طويلة. ومع دخول السياسة على خط الطاقة، أخذت المسافة تبتعد مع أوروبا التي اعتمدت استراتيجية للتخفيف من الاعتماد على مصادر الطاقة الروسية عبر تنويع مصادر الواردات، وزيادة الاستثمار في مصادر الطاقة الجديدة، ما أضعف التأثير الروسي وأثار مشكلات سياسية.
وفي حين أنهى بوتين طبقة الأوليغارشيين، فإنّ شغل المكان الفارغ من قبل حاشية الرئيس أضعف الاقتصاد، عقب اتباع سياسة لفرض هيمنة الدولة على القطاعات الرئيسة في الاقتصاد وتأسيس شركات قابضة يتولاها أهل الثقة والولاء. وعلى الرغم من كل المحاولات لتطوير الصناعة والزراعة، فإنّ حصة النفط في واردات الموازنة ما زالت بحدود 35 في المائة بشكل مباشر، و20 في المائة بشكل غير مباشر، أي أنّ محاولات تنويع الاقتصاد لم تؤت أكلها، على الرغم من تطور بعض القطاعات جراء توجه الكرملين إلى ذلك رداً على العقوبات الغربية. وواضح أنّ الفائدة ذهبت إلى فئات معينة، ولم تنعكس على مستوى حياة الروس عموماً. ومع توالي الأزمات الاقتصادية، تلقت الطبقة الوسطى ضربات متتالية، وخسرت كثيراً مما حققته في ولايتي بوتين الأولى والثانية، بسبب التلكؤ في تبني إصلاحات سياسية واقتصادية هيكلية، وزيادة هيمنة حاشية بوتين على الاقتصاد.
وتنذر الأوضاع بأنّ الاقتصاد سيشكل الخطر الأكبر في وجه طموحات روسيا العالمية. وتكفي الإشارة في هذا الإطار، إلى دراسة لصندوق النقد الدولي توقّع فيها تراجع حصة روسيا في الإنتاج العالمي إلى 1.7 في المائة في 2024، مقابل 3 في المائة في 2013. ومع تراجع أسعار النفط إلى مستويات بداية عهد بوتين، إضافة إلى تأثيرات فيروس كورونا، تتضاءل فرص تنفيذ مشروعات بوتين القومية التي أقرها سابقاً بنحو 2.5 تريليون روبل (33.6 مليار دولار)، وتحقيق أهدافه بخفض عدد الفقراء، وزيادة مداخيل المواطنين الحقيقية، والانتقال بروسيا إلى مصاف أكبر خمسة اقتصادات في العالم بحلول 2030، عبر تحقيق معدلات نمو تزيد نحو الضعفين عن المعدلات العالمية. علماً أنّ التوقعات قبل كورونا كانت تصبّ في تحقيق نمو أقل بكثير ولا يتجاوز 1.9 في المائة، مقابل 3.5 في المائة عالمياً، وبعد كورونا فإنّ أكثر التوقعات تفاؤلاً تتوقّع تراجعاً بنحو 7 في المائة في العام الحالي، وعدم تحقيق نمو قبل النصف الثاني من العام المقبل.
مهمات صعبة
مما لا شكّ فيه أنّ بوتين استطاع في السنوات الماضية إعادة روسيا لاعباً مهماً ومؤثراً في العالم، وتكفي الإشارة إلى "أسلحة لا تقهر" كشف عنها في مارس/آذار 2018، ودور بلاده في الحرب السورية، وعودتها بقوة إلى الشرق الأوسط وأفريقيا وأميركا اللاتينية. لكن بوتين الذي استطاع أن يتحول إلى "بطل عالمي" عبر إنجازات تكتيكية هنا وهناك، ما زال عاجزاً عن تحقيق إنجازات استراتيجية تعيد قوة روسيا إلى ما كانت عليه في زمن الاتحاد السوفييتي، خصوصاً في ظلّ العداء مع جوارها الاستراتيجي، أو عدم قدرتها على تقديم الدعم الكافي له، ما يعزز نفوذ الصين والاتحاد الأوروبي وتركيا وغيرها في الفضاء السوفييتي السابق.
وفي مقابل عودة القرم لمنع خسارة القواعد العسكرية، فإنّ هذه الخطوة أعادت الحياة لحلف شمال الأطلسي، عبر ضرورة وجوده لمواجهة الخطر الروسي المفترض على بلدان البلطيق وأوكرانيا وجورجيا. وبدلاً من منع تمدد الحلف شرقاً، بات شمال غربي روسيا خاصرة ضعيفة مع انضمام بلدان البلطيق للأطلسي، ونشر قوات الحلف وصواريخه فيها على بعد مئات الكيلومترات من العاصمة الشمالية سان بطرسبورغ.
وعبر مبدأ "الديمقراطية الموجهة"، استطاع بوتين لسنوات ضبط الأوضاع الداخلية، اعتماداً على إجماع معظم الروس على أولوية الاستقرار، وتفضيله مع إصلاحات محدودة عن خيار الثورات الذي كلّف روسيا غالياً في عام 1917 وما بعده، وفي تسعينيات القرن الماضي. في المقابل، فإنّ كثيراً من الروس باتوا ينظرون إلى حكم بوتين على أنه يدافع عن مصالح طبقة ضيقة متجسدة بالاحتكارات النفطية وتصدير المواد الخام، والشركات القابضة التي أسسها هو ويقودها أصدقاؤه والمقربون منه، ما ينذر بحراك شعبي أكبر مما شهدته البلاد في 2011 وبداية 2012، وكذلك الاحتجاجات على رفع سنّ التقاعد العام الماضي.
في بداية العام الحالي، أعدّ بوتين بعناية فائقة خطته للتمديد بعد 2024، مستغلاً إنجازاته في السياسة الخارجية، ومدعوماً بشعبية يحسد عليها، ورجال دين موالين، وأجهزة أمنية قوية، وبرلمان مطواع، لكن تراجع أسعار النفط وأزمة كورونا ينذران بتغيّرات كبيرة، تصعّب على بوتين تمرير التعديلات الدستورية، وتجعل مصيرها رهناً بنجاح السلطات في محاربة الفيروس القاتل، وتبعاته الاقتصادية والاجتماعية، في ظلّ تراجع أسعار النفط وعدم القدرة على إنهاء العداوة مع الغرب.