يوم طويل عاشه الفلسطينيون، أمس الخميس، وهم يراقبون نتائج صمودهم في وجه جميع محاولات الاحتلال تغيير الوضع القائم في الأقصى، وكيف تحول إلى انتصار إضافي يسجل ضد الاحتلال بعدما أجبر على إزالة الإجراءات الأمنية التي كان قد وضعها ما بعد 14 يوليو/تموز الحالي، على الرغم من جميع المحاولات التي قام بها جنوده لتعكير الانتصار من خلال الاستفزازات للمرابطين أكثر من مرة وقمعهم أثناء الدخول للصلاة في الأقصى.
ويدرك الفلسطينيون أن نجاحهم في معركة كسر قيود الأقصى لم تكن ممكنة لولا التلاحم الشعبي الذي شهدته الأراضي المحتلة، ولولا الدور المركزي الذي أداه المرابطون والمرابطات في محيط المسجد الأقصى، إلى جانب المرجعيات الدينية، فيما بدت محاولة استثمار بعض الجهات الداخلية، ودول عربية، للانتصار، وتجييره لصالحها، مفضوحة، لا سيما أن أهل القدس هم من دفعوا ثمن هذا الإنجاز غالياً: خمسة شهداء ونحو 1500 جريح، و14 يوماً من الصلاة على إسفلت المدينة وساحاتها وأمام أبواب المسجد الأقصى. ولذلك كانت جميع الأدوار السياسية تحاول اللحاق بصمود الأهالي، بدءاً من اجتماع القيادة الفلسطينية، الذي عقد بعد ثمانية أيام على اندلاع المواجهات وإغلاق المسجد الأقصى، مروراً بالقرارات الأردنية والإسرائيلية والتواصل الأميركي.
المرجعيات الدينية
هذا المصطلح الجديد على الساحة الفلسطينية، كان من أهم ما تكشفت عنه معركة الرباط الأخيرة حول المسجد الأقصى، مع بروز دور المرجعيات الدينية الأربع في القدس المحتلة، والتي تحكمت في حركة الشارع المقدسي، وكان لها الدور الأبرز في قيادة وتوجيه الحراك الشبابي والجماهيري اليومي في الرباط والاعتصام، وتنظيم الفعاليات الاحتجاجية، والتي اشتملت على إقامة الصلوات الخمس في الساحات والشوارع المحيطة بالأقصى، وتنظيم الاعتصامات والمهرجانات الحاشدة بين كل صلاة وصلاة، وتقدم صفوف الشبان الذين وقفوا خلفها بالآلاف تقديراً لمكانتها ورمزيتها الدينية وتفاعلها مع توجهات الشباب الذين كانوا يتوجهون إليها من حين إلى آخر، وفي كل صغيرة وكبيرة قبل أن يقوموا بتنفيذها.
ويعتبر قادة المرجعيات الأربع، وهم رئيس الهيئة الإسلامية، الشيخ عكرمة صبري، ومفتي القدس، الشيخ محمد حسين، ورئيس مجلس إدارة الأوقاف الإسلامية، الشيخ عبدالعظيم سلهب، وقاضي القضاة، الشيخ واصف البكري، رموزاً دينية معروفة لدى المقدسيين، ويتمتعون باحترامهم وثقتهم على حساب الفصائل الفلسطينية التي غابت رموزها عن الساحة، في حين امتلأت الشوارع والساحات العامة بالنشطاء من مختلف التنظيمات، الذين رأوا في المرجعيات الدينية واجهة مهمة يمكن الاستفادة منها في مواجهة إجراءات الاحتلال ضد المسجد الأقصى، لما لظهورها من أثر وتأثير لدى الرأي العام المحلي والعالمي، على خلاف قادة الفصائل الوطنية التي انحسر تأثيرها وتراجع إلى حد كبير، بل كان حضورها سبباً في إثارة مشاعر الغضب لدى حشود الشبان، الذين ساءهم انكفاء رموز الفصائل وحتى الشخصيات المستقلة التي كانت تتعامل مع الشارع المقدسي باستعلاء.
ويقر القيادي في حركة "فتح"، حاتم عبد القادر، في حديث مع "العربي الجديد"، أنه "يوجد هناك تراجع كبير في دور الفصائل ميدانياً. وحين غابت الرموز عن ساحة الفعل الميداني، كان من الطبيعي أن يبحث جيل الشباب عن رموز أخرى تتمتع بالمصداقية والثقة، حتى وإن اختلفوا معها في توجهاتهم السياسية والفكرية، لكن المعيار هنا هو ما تتمتع به هذه المرجعيات من حضور في مواجهة الخصم، لتسحب منه ذريعته أمام العالم بأن ما جرى ويجري تحركه جهات ودوافع سياسية وليس عدواناً على مكان مقدس، يستوجب الدفاع عنه تسخير الرموز الدينية في خدمة الهدف الرئيس والتصدي للاحتلال". ويبدو أن القيادة الفلسطينية، برئاسة عباس، التقطت الفرصة، بعد أن أدركت أهمية هذه المرجعيات وما تمثله في الشارع الفلسطيني المقدسي، فوقفت إلى جانبها، تدعمها وتساندها وتتشاور معها، وهو أمر لم يكن مألوفاً في العمل السياسي الفلسطيني، إذ جرت العادة أن تتخذ القرارات من أعلى مستوى سياسي من دون الرجوع إلى هيئات دنيا. ولعل هذا أيضاً توجه جديد يؤشر إلى إدراك القيادة السياسية لدور وتأثير المرجعيات الدينية، وهو دور تم استثماره فعلاً من خلال اللقاءات المشتركة التي تم عقدها مع هذه المرجعيات، وكان آخرها مشاركة المفتي العام في اجتماع القيادة أمس، والإعلان المشترك بخصوص الدخول إلى الأقصى.
هكذا أزيحت البوابات عن الأقصى
في موازاة ذلك، شكل التلاحم الشعبي في القدس حالة من الإرادة الفلسطينية الصلبة، التي عجز الاحتلال الإسرائيلي عن كسرها، أثناء محاولته إحكام سيطرته على المسجد الأقصى من خلال البوابات الإلكترونية، ونصب كاميرات المراقبة. وتمكن المقدسيون بتعاونهم ورباطهم الدائم على بوابات المسجد الأقصى، من فتح تلك البوابات، ودفع الاحتلال الإسرائيلي للتراجع عن كل ما قام به منذ 14 يوليو الحالي. وقد واظب مئات المقدسيين، والآلاف في بعض الأحيان، خلال أيام إغلاق الأقصى، على الرباط لساعات طويلة عند أقرب نقاط للمسجد. وهذا يحتاج إلى مأكل ومشرب ومختلف مقومات الحياة حتى يتمكن المرابط من البقاء والصمود لأكبر مدة ممكنة. وتسابقت العائلات المقدسية، التي تعيش في باب المجلس، وجلها تفضل عدم ذكرها في وسائل الإعلام، وباب حطة، وحارات البلدة القديمة، في تأمين تلك الاحتياجات. الماء البارد، والطعام، والحلويات، والفاكهة كانت على عاتق سكان البلدة القديمة في البداية وبابي المجلس وباب حطة، وحارة الجالية الأفريقية. وقد أعادت هذه التفاصيل مشهد التلاحم الشعبي بين الفلسطينيين إبان الانتفاضة الأولى في العام 1987، إذ إن التلاحم الشعبي آنذاك وضع الاحتلال في مأزق، حين كانت بيوت الشارع مفتوحة للمطاردين من قبل الاحتلال، وملاذاً ومأمناً لهم. وقد تجسد الواقع ذاته مجدداً داخل مدينة القدس، على الرغم من محاولات الاحتلال الإسرائيلي طيلة تلك السنوات أن يغير صورة المدينة ويطمس هوية سكانها العرب. وما بين انتفاضة 1987 ونفير الأقصى 2017 كانت الأبواب نفسها مفتوحة للمرابطين اليوم، والمطاردين بالأمس.
وأكد الكاتب والمحلل السياسي، راسم عبيدات، لـ"العربي الجديد"، أن الحالة المقدسية جسدت كل أشكال التضامن الشعبي والوحدة بين كل مكونات ومركبات المجتمع المقدسي، من قوى وطنية ودينية ومجتمعية، بالإضافة إلى أن هذا التلاحم والتضامن الشعبي تجسد من خلال قيام سكان البلدة القديمة، بكل حاراتها، بتقديم الطعام والمشروبات والحلويات إلى المعتصمين والمرابطين على بوابات المسجد الأقصى. كما تشكلت، منذ بداية الأحداث، اللجان الشعبية الطوعية إلى جانب الأهالي للعمل على إعداد الطعام. هذه الحالة المقدسية، وفق عبيدات، "وضعت الاحتلال أمام خيارين، إما أن ينزل من على الشجرة ويتراجع عن إجراءاته وممارساته من أجل احتواء الحالة الشعبية المتصاعدة، وإما أن تنفجر الأوضاع ويكون الثمن أكبر بكثير، والاحتلال اختار التراجع في هذه العملية".
وفي وصف لمشاهد التلاحم، تقول الناشطة المقدسية، حنين بزبز، في حديث مع "العربي الجديد"، إن "اللجان الشعبية في القدس وطيلة أيام أحداث الأقصى، وفرت أكثر من سبع أكلات شعبية فلسطينية مميزة، كالمجدرة، والمقلوبة، والقدرة، والمعجنات، وغيرها في يوم واحد، إضافة إلى الحلويات بكافة أشكالها، والماء البارد، والعصير، والشاي، والفاكهة. الأمر بدأ مع العائلات الموجودة في باب المجلس، وباب حطة، بينما تكفلت الجالية الأفريقية التي فتحت أبواب منازلها للجميع بجزء أكبر. الجميع جنّد نفسه في خدمة المرابطين وتزويدهم بكافة احتياجاتهم". وأضافت إن "مهمة دعم صمود المرابطين عند سكان البلدة القديمة، تبدأ ما قبل صلاة الظهر حتى صلاة المغرب، وتنهال عليهم وجبات الطعام، والعصائر، والماء والمعجنات، طيلة الوقت، بينما تتولى الحافلات المقدسية جلب المرابطين إلى ساحات الرباط حول الأقصى بشكل مجاني". وأشارت بزبز إلى أن "أهالي القدس تبرعوا بتأمين المبيت للمرابطين القادمين من أماكن بعيدة، لا سيما الفلسطينيين الذين يعيشون في الأراضي المحتلة عام 1948، بينما كان الجميع على أهبة الاستعداد للتواجد في ساحات الأقصى تلبية لنداءات الجوامع حين كانت تنادي للرباط أثناء عمليات الحفر ودخول الجرافات". ومن صور التلاحم الشعبي في المدينة، أطفال صغار وفروا مصروفهم اليومي لشراء عبوات الماء للمرابطين، فيما تولت محال تجارية أخرى توزيعها مجاناً على الناس، حتى تمت كسر شوكة الاحتلال وإعادة الوضع لما كان عليه سابقاً.
مشهد مقدسي آخر أدى إلى إزاحة البوابات عن المسجد الأقصى المبارك، هن المرابطات، اللواتي أدين دوراً قيادياً غير معلن، من خلال الالتفاف النسائي والشعبي حولهن وهن في مقدمة الرباط. وجود المرابطات، وما يتمتعن به من شعبية في القدس، وفي صفوف النساء ورواد المسجد الأقصى، تحول إلى نقطة مفصلية في التأثير والضغط على سلطات الاحتلال. كما أن تضاعف الأعداد، التي وصلت الأربعاء الماضي، عند صلاة المغرب إلى 30 ألفاً عند البوابات، أربك الاحتلال. وأدت النساء دورين أساسيين في قضية المسجد الأقصى، الأول شحن الهمم والعزيمة، وحشد النساء للرباط من كل ضواحي القدس والأراضي المحتلة عام 1948، وفي الآخر، عملية الطبخ ونقل الطعام وتوزيعه. المحلل السياسي، راسم عبيدات قال، لـ"العربي الجديد"، إن الالتفاف الشعبي حول المرابطات أعطاهن صفة القيادة من دون منصب، فوجودهن أعطى النساء المقدسيات الأمان بالتواجد جنباً إلى جنب مع الرجال في عملية الرباط. وأكد أن المرابطات، من خلال دورهن القيادي غير المعلن ووجودهن في مقدمة الرباط، منحن قوة وإرادة ودوراً أساسياً لا يمكن فصله عن الانتصار على الاحتلال وإزالة البوابات. قضية المسجد الأقصى المبارك، وفق تحليله، شكلت حالة للكل المقدسي، المسيحي في المقدمة، والمسلم أيضاً، بينما خلقت حالة من الوحدة الوطنية، وعلى سبيل المثال من لا يصلي كان هناك في باب الأسباط، والسياسي، والمريض، والفصائلي، والشيوخ، والأطفال والرجال.
ويرى الكاتب والمحلل السياسي الفلسطيني، جهاد حرب، في حديث مع "العربي الجديد"، أنه يوجد خمسة عوامل رئيسة دفعت الحكومة الإسرائيلية للتراجع عن إجراءاتها في القدس والمسجد الأقصى إلى ما قبل 14 يوليو الحالي، وهي قطع القيادة الفلسطينية للاتصالات مع إسرائيل، وكذلك الموقف الشعبي الفلسطيني الواسع الذي خاض هذه المواجهة، علاوة على وجود انقسامات داخل أجهزة الأمن الإسرائيلية حول تقييمها للخطوات التي اتخذها رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو بحق الأقصى. وأضاف "كما أنه من بين هذه العوامل حادثة السفارة الإسرائيلية في عمان، والتي أدت إلى مقتل مواطنين أردنيين برصاص حارس أمن سفارة الاحتلال هناك، وأدت إلى توتير الأجواء بين الأردن وإسرائيل، وأيضاً الانقسام الداخلي في إسرائيل ما بين الأحزاب والكتاب والإعلاميين، والذين اعتبروا أن نتنياهو قد صعد إلى الشجرة، ويمكن لإجراءاته أن تؤدي إلى حدوث انتفاضة".