دخلت محافظة إدلب مرحلة حسم مصيرها بين مختلف القوى المتصارعة، وهو ما ترتسم ملامحه على صعيدين: سياسي من خلال مسار أستانة، ومن خلال التفاهمات التركية الروسية المعلنة أو غير المعلنة، والتي يتداخل فيها النظام السوري وإيران. وعسكري، إذ تتخذ الأطراف المختلفة خطوات على الأرض، سواء في إطار تنسيقي أو تنافسي.
في المسار السياسي، أعلن رئيس الوفد الإيراني، حسين جابري أنصاري، في ختام مفاوضات "أستانة 7"، أن الدول الضامنة، وهي إيران وروسيا وتركيا، ستنشر كل منها 12 نقطة مراقبة في منطقة إدلب في إطار تنفيذ اتفاق "خفض التصعيد"، فيما أكد رئيس وفد النظام إلى أستانة، بشار الجعفري، أنه تم الاتفاق على إنشاء منطقة لخفض التصعيد في إدلب، على أساس "مشاركة الجميع في محاربة مسلحي جبهة النصرة وانسحاب الفصائل المسلحة باتجاه شرق طريق أبو الظهور ولمسافة 3 كيلومترات إلى الغرب منه". ورأى أن "ما حدث، ومنذ أستانة 6 هو دخول القوات التركية بآلياتها المدرعة إلى الأراضي السورية، وبالتنسيق مع النصرة، من دون أن تلتزم أنقرة بتعهداتها بموجب اتفاق خفض التصعيد بين الدول الضامنة". غير أن مصدراً في المعارضة السورية أكد، لـ"العربي الجديد"، أنه لن يكون هناك وجود إيراني أو روسي داخل مناطق المعارضة في إدلب، بل على أطراف المحافظة، وفي مناطق سيطرة قوات النظام فقط. من ناحيته، قال عضو وفد المعارضة إلى محادثات أستانة، العقيد فاتح حسون، لـ"العربي الجديد"، إن وفد المعارضة لا يشارك بالنقاشات بين الدول الضامنة بشأن نشر نقاط المراقبة في إدلب، مضيفاً "بالنسبة للتنسيق العسكري بيننا وبين الضامن التركي فهو سري للغاية، ولا يمكن الإفصاح عنه، لأن جزءاً كبيراً منه يتعلق بأمن الجمهورية التركية وليس من صلاحيتنا تناوله إعلامياً".
وعلى الأرض، زارت فرق استطلاع تابعة للجيش التركي مواقع تخضع لسيطرة المعارضة السورية المسلحة في مناطق عديدة في أرياف اللاذقية وحماة وإدلب الجنوبي. وقالت مصادر محلية إن الهدف من هذه الجولة تفقد الاماكن التي يمكن لتركيا أن تقيم عليها 12 نقطة مراقبة ضمن اتفاق "تخفيض التصعيد". وزار الوفد العسكري التركي جبل العكاوي قرب مدينة جسر الشغور جنوب غرب محافظة إدلب، وقلعة شنبر في ريف اللاذقية، إضافة إلى جبل التركمان بريف اللاذقية الشمالي. وكانت تركيا انتهت من تثبيت نقاط للمراقبة في محور جبل سمعان بريف حلب الغربي، وقرية صلوة بريف إدلب بالقرب من جبهات القتال مع المليشيات الكردية. وحسب وسائل إعلام تركية، فإنّ خريطة انتشار الجيش التركي في محافظة إدلب، تشمل مطاري أبو الظهور وتفتناز الواقعين في ريف مدينة إدلب. وأوضحت صحيفة "يني شفق"، المقربة من الحكومة، أن القوات التركية ستتجه إلى مدينة عندان في ريف حلب الشمالي، إذ تسير على بعد 20 كيلومتراً على طول الحدود الجنوبية مع مدينة عفرين التي تسيطر عليها الوحدات الكردية، وذلك بعد أن عزل الجيش التركي عسكرياً منطقة عفرين، عن مناطق سيطرة المعارضة في الشمال السوري.
وكان مطار أبو الظهور يعتبر ثاني أكبر قواعد النظام في الشمال السوري، وسيطرت عليه المعارضة مطلع في العام 2015، وتسيطر عليه حالياً "هيئة تحرير الشام". أما مطار تفتناز، الواقع في ريف إدلب الجنوبي، فيعتبر من أكبر المطارات للطوافات العسكرية في سورية، وذلك قبل السيطرة عليه من قبل المعارضة السورية في يناير/كانون الثاني 2013، وتسيطر عليه حالياً "حركة أحرار الشام". وينتشر الجيش التركي حالياً في دارة عزة وقلعة سمعان وجبل الشيخ بركات، إضافة إلى نقطة عسكرية قرب منطقة عقربات المجاورة لجنديرس، ما سمح برصد الطرق الرئيسية التي يمكن أن تتقدم منها الوحدات الكردية. ويوم الأحد الماضي، زار وفد من القوات التركية منطقة جبل العكاوي بالقرب من بلدة بداما في ريف إدلب الغربي. ودخلت القوات التركية من مخفر "بيسون" على الحدود السورية- التركية، بسيارة واحدة فقط إلى المنطقة. ورجّحت مصادر في المعارضة السورية أنها نقطة استطلاع أو مراقبة جديدة للقوات التركية في سورية. ويطلّ جبل العكاوي على ريفي اللاذقية الشمالي والغربي، فضلاً عن سهل الغاب بالكامل نظراً إلى ارتفاعه الشاهق، إذ كانت تتخذه قوات النظام سابقاً نقطة إشارة.
يأتي ذلك، في وقت تدور تكهنات، تؤيدها معطيات على الأرض، عن نية قوات النظام السوري، مدعومة بالمليشيات الإيرانية، القيام بعملية عسكرية تستهدف خصوصاً السيطرة على مطار أبو الظهور العسكري في ريف إدلب الشرقي، وسط ضبابية في مضمون الاتفاقيات الدولية بين الضامنين لتطبيق اتفاق "خفض التصعيد"، وحديث عن تقسيم إدلب الى ثلاث مناطق، واحدة تحت الحماية الروسية، تكون منزوعة السلاح، وأخرى تحت الحماية التركية، وثالثة ينحصر فيها الوجود المسلح لـ"هيئة تحرير الشام" والفصائل الأخرى. وما رجح هذا السيناريو العملية العسكرية التي بدأتها قوات النظام قبل أيام في ريف حماة الشرقي في قرية جب أبيض، وسبقها دخول عناصر تنظيم "داعش" إلى المنطقة، واشتباكهم المستمر مع "هيئة تحرير الشام" التي تسيطر على منطقة البادية، وسط اعتقاد بأن دخول عناصر التنظيم كان بتسهيل من قوات النظام بهدف إشغال "هيئة تحرير الشام" في معارك جانبية.
وتشير بعض المصادر إلى أن "هيئة تحرير الشام" أخلت، منذ أيام، مطار أبو الظهور من الأسلحة والعتاد، مبقية مجموعات من الحرس على مدخل المطار، إما بهدف تجنب القصف الجوي للمطار، والذي تعرض في 23 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، إلى غارات مكثفة دمرت قسماً كبيراً من أبنيته، وقتلت عدداً من قيادات "الهيئة"، أو أن ذلك جاء في إطار تفاهم مع تركيا ضمن اتفاق "خفض التصعيد". وبدأت قوات النظام السوري، مدعومة من المليشيات الإيرانية والطيران الروسي، التحرك في المنطقة منذ أيام، وتحديداً في المناطق التي تقدم إليها عناصر تنظيم "داعش" في وقت سابق في الجهة الجنوبية الشرقية لإدلب، في وقت انسحبت فيه "وحدات حماية الشعب" الكردية من مطار "منغ" العسكري، في خطوة رأى متابعون أنها تستهدف منع تقدم الأتراك في المناطق التي تسيطر عليها القوات الكردية شمالي حلب.
وتشهد منطقة أبو الظهور والريف الشرقي لمحافظة إدلب منذ عدة أسابيع تحليقاً مكثفاً لطيران الاستطلاع لرصد أي تحركات عسكرية في المنطقة، بينما تتعرض المنطقة الممتدة حتى ريف حماة الشرقي إلى حملة قصف جوي روسي ومن طيران النظام، أجبرت الآلاف من المدنيين على النزوح من المنطقة. ورشحت أنباء عن تعيين وزارة دفاع النظام، اللواء محمد خضور، بشكل مؤقت لقيادة "معركة أبو الظهور"، التي تحشد لها من جهة منطقة أثريا، بعد تجاوز المناطق التي يسيطر عليها تنظيم "داعش"، إذ تقول قوات النظام إنها تقدمت بعمق 15 كيلومتراً في المنطقة، وسيطرت على جب الأبيض شرق حماة، إلا أن "تحرير الشام" أعلنت صد القوات وقتل عناصر منها. كما تشير مصادر إلى وصول تعزيزات للمليشيات الإيرانية إلى المنطقة، ما يرجح تصاعد حدة المعارك هناك خلال الفترة المقبلة. وتقول المصادر إن التعزيزات الإيرانية التي وصلت إلى ريف حلب الجنوبي وحماة، تمثلت باللواء 65، الذي يعتبر من الألوية الخاصة في القوة البرية الإيرانية، التي تسمى أيضاً "القبعات الخضر"، إضافة إلى مليشيات "فاطميون" و"زينبيون"، وعناصر من "حزب الله" اللبناني. وجاءت التعزيزات بالتزامن مع زيارة رئيس الأركان الإيراني، محمد باقري، إلى خطوط القتال في ريف حلب يوم الجمعة الماضي، ما عزز التكهنات باقتراب شن هجوم كبير ضد "هيئة تحرير الشام" وصولاً إلى مناطق في ريف إدلب. وبدأت بواكير هذا الهجوم بالفعل من خلال سيطرة قوات النظام على بعض القرى، مثل الرحراحة، ورسم الأحمر، ورسم صوان، وجب أبيض، والشحاطية، وخربة جويعد، ونقاط أخرى في ريف حماة الشمالي الشرقي.
ورأى بعض المتابعين أن هدف ايران من هذه العملية العسكرية هو حماية قواعدها في ريف حلب، وفتح الطريق باتجاه بلدتي كفريا والفوعة في ريف إدلب، وتأمين طريق خناصر- أثريا ومعامل الدفاع في الراموسة، إضافة إلى فرض نفسها كلاعب قوي في رسم أية سياسات مستقبلية حول سورية، مستبعدين أن تتمكن من الوصول إلى مطار أبو الظهور، خصوصاً في ظل ما يشاع عن تفاهمات دولية بين الأطراف الضامنة لأستانة، ودور تركيا المقبل بفرض سيطرتها على مطاري تفتناز وأبو الظهور. وحسب المعطيات على الأرض، فإنه بعد أسبوع على انطلاق العمليات العسكرية لقوات النظام في تلك المنطقة، فقد قلصت تلك القوات المسافة عن مطار أبو الظهور إلى 50 كيلومتراً، لكنها لم تتوغل بعد داخل الحدود الإدارية لمحافظة إدلب، علماً أن مطار أبو الظهور يقع في أقصى شرق المحافظة في المنطقة الصحراوية التي تفصل إدلب عن حماة، وتلامس ريف حلب الجنوبي الغربي. وتمثل المنطقة الصحراوية خط الإمداد الوحيد لقوات النظام من حماة باتجاه مدينة حلب عبر طريق باتت تعرف بخط أثريا - خناصر، وتعرضت لهجمات متكررة من الغرب من قبل المعارضة، و"داعش" من الشرق، قبل أن يستعيد النظام السيطرة على مناطق "داعش" ويبعد التنظيم باتجاه البادية. يأتي ذلك، في وقت تحدثت مصادر عن تقسيم محافظة إدلب إلى ثلاث مناطق نفوذ بموجب اتفاق "خفض التصعيد"، تدير إحداها روسيا، بينما تسيطر تركيا على الثانية القريبة من حدودها، وتنحصر الفصائل المسلحة في المنطقة الثالثة. ووفق المصادر فإن المنطقة الأولى تقع إلى الشرق من سكة القطار، على خط حلب- دمشق، وستكون منزوعة السلاح وخالية من المسلحين والفصائل، وهي تحت الحماية الروسية، على أن تدار من طرف مجالس محلية، بينما تمتد المنطقة الثانية بين السكة والأوتوستراد وتتجمع فيها فصائل المعارضة. أما الثالثة فستخضع للنفوذ التركي وتقع غرب أوتوستراد حلب-دمشق الدولي.