وكانت جوبا قد شهدت في اليومين الماضيين مباحثات بين أبرز زعماء حركات التمرد السودانية، ووفد من مجلس السيادة الانتقالي، قاده الفريق أول محمد حمدان دقلو المعروف بـ"حميدتي"، حيث تمت مناقشة الخطوات التمهيدية لوقف الحرب وتحقيق السلام في السودان. وانتهت المباحثات باتفاق إطاري، قضى بوقف شامل لإطلاق النار، وإيصال المساعدات الإنسانية للمتضررين في مناطق الحرب من دون شروط، وإلغاء أحكام إعدام غيابية صدرت في عهد الرئيس المعزول عمر البشير، بحق زعماء التمرد. كما نصّ الاتفاق على إطلاق سراح المعتقلين وتعزيز الثقة بين الأطراف، وذلك قبل بداية مفاوضات الحلّ النهائي التي حدد تاريخ بدايتها في 14 أكتوبر/تشرين الأول المقبل، على أن تكون جوبا مقراً للتفاوض أيضاً.
وفي اجتماع لمجلس الوزراء أوّل من أمس الثلاثاء، اتفق أعضاؤه على وضع قضية وقف الحرب وبناء السودان على رأس قائمة الأولويات التي ستعكف الحكومة على العمل عليها في إطار خطة على مدى 200 يوم، تشمل أولويات أخرى أبرزها حلّ الضائقة الاقتصادية.
ولم يستبعد مراقبون للتطورات في البلاد، حدوث نزاع بين مجلس السيادة ومجلس الوزراء حول ملف السلام، مشيرين إلى أنّ ذهاب أعضاء مجلس السيادة إلى جوبا ولقاءهم بحركات مسلحة، مثّل تدخلاً صريحاً في اختصاصات الحكومة التي أنيط بها، حسب الوثيقة الدستورية، تكوين مفوضية خاصة للسلام بقرار من رئيسها، على أن تتم المفاوضات تحت رعاية مجلس السيادة.
وليس مستبعداً أن يلتقي حمدوك، خلال الزيارة الحالية إلى جوبا، قيادات الحركات المسلحة لبحث سبل تحقيق السلام، وسط تأكيدات منه سبقت الزيارة، باستعداد حكومته لدفع أي ثمن مقابل وقف الحرب. كما سيلتقي رئيس الوزراء السوداني، بالرئيس الجنوبي سلفاكير ميارديت لبحث العلاقات الثنائية بين الخرطوم وجوبا، خصوصاً في مجالات التعاون النفطي وترسيم الحدود والتجارة الحدودية.
ومنذ انفصال جنوب السودان في العام 2011، تعرّضت العلاقات بين البلدين لهزات عديدة، وصلت إلى مراحل بعيدة حين احتلّ الجنوب مدينة هجليج النفطية في العام 2012، واستردها نظام البشير بعد ذلك، لكنه منع مرور النفط الجنوبي وتصديره عبر الموانئ السودانية، ومنع التجارة الحدودية لخنق الدولة الوليدة التي تعتمد بالأساس في موادها الغذائية على السودان.
غير أنّ البلدين وقبل سقوط نظام البشير، شرعا في تدشين مرحلة جديدة من التعاون، لا سيما في مجال تصدير النفط. كما توسّط السودان بين حكومة سلفاكير، والحركة الشعبية المعارضة بقيادة رياك مشار، ونجحت تلك الوساطة في توقيع الطرفين على اتفاق سلام العام الماضي بالخرطوم لم تكتمل بعد خطوات تنفيذه، وإن كان يوم أمس شهد الإعلان عن توصل سلفاكير ومشار إلى اتفاق على تشكيل حكومة انتقالية بحلول 12 نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل.
وبحسب وزير الإعلام والثقافة، المتحدث الرسمي باسم الحكومة السودانية، فيصل محمد صالح، فإنّ وزراء الخارجية والداخلية والتجارة والطاقة سيرافقون حمدوك في زيارته لجوبا. وأوضح صالح في تصريح لـ"العربي الجديد"، أنّ رئيس الوزراء السوداني ذكر في أول اجتماع لحكومته أنّ أول زيارة له ستكون لجوبا تأكيداً على العلاقة الخاصة بين البلدين، ومكانة دولة الجنوب عند السودانيين التي كانت يوماً جزءاً من السودان.
وأضاف صالح أنه "على الرغم من استقلال الجنوب، فإنّ الحكومة الجديدة تضع في الاعتبار الخصوصية العالية للعلاقات بين الحكومتين والشعبين"، منوهاً إلى أنّ الزيارة الأولى لحمدوك إلى جوبا "أقرب للزيارة الاستكشافية، وبحث آفاق التعاون المفتوح في المجالات كافة". واستبعد صالح أن يتم توقيع اتفاقيات في هذه الزيارة، موضحاً أنّ "رئيس الوزراء حرص على اصطحاب وزيرة الخارجية، أسماء محمد عبد الله، لتبحث التعاون الدبلوماسي الشامل، بما في ذلك التفاهم حول توحيد المواقف في القضايا الإقليمية والدولية. كما اصطحب وزير الداخلية الطريفي إدريس لمناقشة القضايا الأمنية المشتركة وقضايا الحدود، ووزير الطاقة عادل علي إبراهيم لبحث ملف النفط الذي لا تزال ترافقه بعض التعقيدات، فضلاً عن وزير التجارة والصناعة مدني عباس مدني، الذي سيذهب لبحث ملف التجارة الحدودية بين البلدين وإمكانية تصدير بعض السلع المنتجة في السودان للجنوب".
وتعليقاً على زيارة حمدوك إلى جوبا، قال الصحافي السوداني، فتح الرحمن شبارقة، إنّها "ترتبط بصورة مباشرة بإحراز تقدّم في الملف الأول الموجود على طاولة رئيس الوزراء، وهو تحقيق السلام الذي وُضِع في مقدمة أولويات الحكومة الجديدة"، معتبراً في حديث مع "العربي الجديد"، أنّ "احتضان جوبا للمفاوضات بين الحكومة السودانية والحركة المسلحة هذه الأيام، يعدّ بمثابة المفتاح الأهم لنجاح العملية السلمية". وتابع "كما أن تحقيق السلام في السودان يتطلّب تحقيق سلام بالضرورة في جنوب السودان، وهو الأمر الذي يتطلب على الأرجح تواصلاً مباشراً بين حمدوك وسلفا كير، خصوصاً أنّ هناك تركة ثقيلة خلّفها النظام السابق الذي كانت لديه صلات قوية مع بعض الأطراف الجنوبية التي كانت على عداء مع حكومة رئيس جنوب السودان".
ولفت شبارقة إلى أنّ الزيارة "ربّما تكون على صلة بالملف الثاني في قائمة أولويات حمدوك، وهو الملف الاقتصادي الذي يمكن أن يحدث فيه اختراق، لا سيما بتعزيز التعاون النفطي بين البلدين"، مضيفاً "يمكن القول إنّ الزيارة لجوبا تستبطن اعترافاً بخصوصية العلاقات بين البلدين، وتشير إلى رغبة حمدوك في فتح صفحة جديدة من التعاون والجوار الآمن".
من جهته، رأى الصحافي من جنوب السودان، غبريال شدار، في حديث مع "العربي الجديد"، أنّ زيارة حمدوك لجوبا "تعكس اهتمام رئيس الوزراء الجديد بالعمق الاستراتيجي للسودان داخل القارة الإفريقية، وارتباط الاستقرار الأمني والسياسي بالأوضاع في البلدين". وتابع "هذه زيارة تاريخية وتعتبر رسالة أيضاً بأنّ ثمّة توجهات جديدة في الخرطوم بشأن حلّ القضايا العالقة"، مضيفاً "حتى إذا لم تسفر الزيارة عن نتائج كبيرة، إلا أنّها قد تمهّد لتخفيف أي نوع من التوتر أو تساعد في تقارب وجهات النظر".
وأوضح شدار أنّ "هناك الكثير من القضايا العالقة بين البلدين بخصوص اتفاقيات التعاون التي وقعت في سبتمبر/أيلول عام 2012، ولا يزال الكثير من بنودها غير مطبق، خصوصاً في ما يتعلّق بالحدود المتنازع عليها، والاستفتاء في منطقة أبيي، وملف حركات المعارضة في البلدين، وهذه قضايا تحتاج إلى أكثر من زيارة".
لكن اللواء أمن متقاعد، عبد الهادي عبد الباسط، عبّر في حديث مع "العربي الجديد"، عن عدم تفاؤله بما يمكن أن تحققه زيارة حمدوك إلى جوبا، سواء على مستوى تحقيق السلام في السودان، أو على مستوى تعزيز التعاون مع دولة الجنوب، أو حتى حلحلة القضايا العالقة بين البلدين.
وأوضح عبد الباسط أنّ "الحركات المتمردة ممثلة في الجبهة الثورية، شعرت بالخذلان والخزي تجاه تحالف قوى إعلان الحرية والتغيير الذي تجاوزها أثناء التفاوض مع المجلس العسكري، وخلال مشاورات تشكيل حكومة حمدوك، على الرغم من أنها جزء من هذا التحالف"، مشيراً إلى أنّ "الحركات المسلحة ثبتت موقفها العدائي للحرية والتغيير من خلال عدد من البيانات، وكذلك من خلال فضّ ندوة بالقوة خاصة بهذه القوى في مدينة الفاشر بولاية شمال دارفور. وبالتالي لن تكون حريصة على توقيع اتفاق سلام مع حكومة الحرية والتغيير، ليس عبر مفاوضات جوبا وحسب، بل طوال الفترة الانتقالية".
وفي ما يتعلّق بإمكانية تحقيق زيارة حمدوك لجوبا قفزة في العلاقات بين السودان وجنوب السودان، رأى عبد الباسط أنّ "العديد من ملفات الخلاف بين الخرطوم وجوبا يكتنفها كثير من التعقيد، خصوصاً في ظلّ احتفاظ جوبا بدعمها للحركة الشعبية-قطاع الشمال، بشقيها؛ مالك عقار وعبد العزيز الحلو، اللذين لا يزالا يتبعان لجيش جنوب السودان على الرغم من ظاهر الانفصال عنه بعد استقلال الجنوب". وأشار عبد الباسط إلى أنّ "الجنوب مشغول بمشكلاته الداخلية، وليس لديه ما يقدمه للسودان، فقط يريد استخدام عدد من أوراق الضغط على الخرطوم للحصول على مكاسب"، مستبعداً في الوقت نفسه الاتفاق على حلّ مشكلات النزاع الحدودي في عدد من المناطق من بينها أبيي غربي ولاية جنوب كردفان في السودان.
ونوه عبد الباسط إلى أنّ "الضائقة الاقتصادية في كل من السودان وجنوب السودان هي التي دفعت كلا من الخرطوم وجوبا في وقت سابق إلى التعاون في مجال النفط، بإتاحة الفرصة للشركات السودانية لتشغيل الآبار التي توقفت بعد الحرب الأهلية في الجنوب، وسماح السودان بتصدير النفط الجنوبي عبر موانئه، للحصول على رسوم يغذي بها خزينته"، مؤكداً أنّ ذلك "هو الملف الوحيد الذي يمكن أن يحدث فيه تقدّم جديد لاستمرار حاجة البلدين لذلك".