موسمٌ ثقافي وفني جديد، تشهده مدنٌ عربية مختلفة، في الفترة الممتدة بين بداية خريف 2017، ونهاية العام الجاري. موسمٌ يُفترض به أن يُقدِّم جديداً ما، وإنْ إلى جانب المعروف والمتداول والمُكرَّر، غالباً. موسمٌ يُراد له أن يكون احتفالاً بنتاجٍ ثقافي وفني، نابعٍ من وقائع العيش العربي اليومي، في مرحلة الاضطرابات والتبدّلات الكثيرة والسريعة (ومعظمها سلبيّ)، فإذا ببعض النتاج يتحوّل ـ في بدايات الموسم على الأقلّ ـ إلى مساحة صراعات، منبثقة من الغليان العنفي في بقاعٍ جغرافية عربية، بينما يُتيح بعضه الآخر ـ في الفترة نفسها أيضاً ـ شيئاً من تواصل عقلانيّ وانفعاليّ (في آن واحد) مع ذاكرةٍ وتاريخٍ وراهنٍ.
وإذْ تبدو غالبية الاحتفالات روتينية، شكلاً ومضموناً (رغم سعي منظّميها إلى تجديدٍ ما، يصطدم بعجزٍ عن التغيير والتجديد)، فإنّ بعضها يمنح المهتمّ حيّزاً ـ ولو متواضعاً ـ لاكتشاف معنى الاختلاط الإبداعي بين فنون وثقافات، في أشكالٍ تتّخذ من السينما أداة قول واستعادة، وتجعل الصُوَر مرايا ذاتٍ وماضياً ومساراتٍ. والاختلاط هذا يضع الصورة في تساوٍ مع الأدب والمسرح والفن السابع أيضاً، ما يفتح مجالاً للتنبّه إلى نتائج المزج بين أشكالٍ فنية، يرغب صانعوها في توثيق ذاكرة، أو في تسجيل موقف، أو في نقل حالة أو إحساسٍ من المكتوب إلى المصوَّر.
هذا حاضرٌ في الدورة الـ24 (3 ـ 12 نوفمبر/ تشرين الثاني 2017) لـ"صالون الكتاب الفرنكوفوني في بيروت"، الذي تعثر السينما فيه على مكانٍ لها في عالم الكتب والإصدارات الجديدة وحفلات التوقيع واللقاءات والندوات، من دون أن يُختَصر حضورها بالاقتباسات السينمائية لرواياتٍ مختلفة، لأن منظّمي "الصالون" يريدون للسينما مكانةً تستحقها، في عالم الإبداع الكتابيّ، المؤلَّف والمُتَرجَم. لذا، يُمكن للمهتّمين مُشاهدة/ إعادة مُشاهدة "السيّد إبراهيم وزهور القرآن" (2003) للفرنسي فرانسوا دوبيرون (1950 ـ 2016)، المُقتبس عن رواية بالعنوان نفسه (2001) للفرنسي إيريك ـ إيمانويل شميت (1960)؛ في مقابل أفلامٍ أخرى، بينها وثائقيان لبنانيان، يتناول الأول ـ وهو بعنوان "نصر" (65 د.) لأنطوان واكد وبديع مسعد ـ سيرة السينمائيّ اللبناني جورج نصر (1927)؛ ويستعيد الثاني ـ "منير أبو دبس: في ظلّ المسرح" (34 د.) لريتا باسيل ـ محطات خاصّة بسيرة المسرحيّ التجديديّ اللبناني منير أبو دبس (1928 ـ 2016).
بهذا، يختلط الأدب بالسينما، وتنفتح الصورة على المسرح والفن السابع معاً، وتلتقط المَشَاهد لحظات تاريخية من سيرة فنان وبلد واجتماع وثقافة وتجارة، في محاولة بصرية للمقارنة بين ماضٍ لبناني، مفتوح على مداه العربيّ وأفقه الغربيّ، وراهنٍ يغلي بعنفٍ وانهياراتٍ وخوف وراتباكات، بالإضافة إلى ندرة في ابتكار الجديد والتجديديّ، وإنْ تتفرّد السينما في بيروت (ومدنٍ عربية أخرى) في إيجاد أشكالٍ مختلفة لابتكارٍ كهذا.
الاحتفال السينمائيّ في "صالونٍ" للكتاب الفرنكوفوني جزءٌ من حيوية مدينة، تعاني مآزق شتّى في أحوال العيش اليومي كافة. فالاجتماع اللبناني مُصاب بأعطابٍ، هي نتاج العطب الأساسي في السياسة والاقتصاد والإعلام والسلوك العام. وهو عطب تزداد حدّته مع الغليان الإقليمي الحاصل في محيط البلد، منذ نهاية العام 2010.
فالعنف المدوّي في سورية ينتقل إلى علاقاتٍ ملتبسة ومتشابكة المصالح بين مهرجانات سينمائية مُقامة في مدنٍ عربية، وسينمائيين سوريين، منقسمين على بعضهم البعض في ارتباطاتهم وعلاقاتهم وأهوائهم، المصنوعة وفقاً لرغبات ومصالح. انقسامات بين معارضين للنظام وموالين له، تنعكس على آلية عمل مهرجاناتٍ سينمائية، غالبيتها الساحقة مُموَّلة من السلطات الحاكمة، أو خاضعة لسطوتها. والحاصل، مؤخّراً، في "أيام قرطاج السينمائية" في تونس (اختيار "مطر حمص" لجود سعيد يؤدّي إلى سحب سامر العجوري فيلم التحريك القصير الخاص به "الولد والبحر") دليلٌ على الهوّة السحيقة القائمة ليس فقط بين سينمائيين سوريين، بل أيضاً بين مهرجانات عربية ومعنى الالتزام الأخلاقي بالفن السابع والثقافة والفنون، ومعنى الموقف الإنساني إزاء الجريمة المرتكبة في سورية.
والعطب حاضرٌ، أيضاً، في القاهرة، التي تعاني بلبلة فظيعة منذ أعوام عديدة، في يوميات عيشها. وما الخلل المتنوّع، الذي يكشفه "مهرجان القاهرة السينمائيّ الدوليّ" دورة بعد دورة، إلا أحد وجوه هذا العطب المصريّ. مثلٌ على ذلك؟ كيف يُمكن "التأكيد" على "تجديدٍ" يُراد للدورة الـ39 (21 ـ 30 نوفمبر/ تشرين الثاني 2017) أن تصنعه، طالما أن الممثلة يُسرا "رئيس شرف"، وحسين فهمي رئيس لجنة تحكيم المسابقة الدولية؟ ما الجديد في مسيرتهما الفنية والثقافية والإنسانية؟ ما التجديديّ في أعمالهما، الحديثة على الأقلّ؟
حكايات المدن العربية غير منتهية هنا، وإنْ تلتقي كلّها عند التناقض الحاصل بين رغبة السينما في استعادة ذاكرةٍ قبل اندثارها، وغرق سينمائيين في نزاعات ناتجة من فقدان البوصلة.
اقــرأ أيضاً
هذا حاضرٌ في الدورة الـ24 (3 ـ 12 نوفمبر/ تشرين الثاني 2017) لـ"صالون الكتاب الفرنكوفوني في بيروت"، الذي تعثر السينما فيه على مكانٍ لها في عالم الكتب والإصدارات الجديدة وحفلات التوقيع واللقاءات والندوات، من دون أن يُختَصر حضورها بالاقتباسات السينمائية لرواياتٍ مختلفة، لأن منظّمي "الصالون" يريدون للسينما مكانةً تستحقها، في عالم الإبداع الكتابيّ، المؤلَّف والمُتَرجَم. لذا، يُمكن للمهتّمين مُشاهدة/ إعادة مُشاهدة "السيّد إبراهيم وزهور القرآن" (2003) للفرنسي فرانسوا دوبيرون (1950 ـ 2016)، المُقتبس عن رواية بالعنوان نفسه (2001) للفرنسي إيريك ـ إيمانويل شميت (1960)؛ في مقابل أفلامٍ أخرى، بينها وثائقيان لبنانيان، يتناول الأول ـ وهو بعنوان "نصر" (65 د.) لأنطوان واكد وبديع مسعد ـ سيرة السينمائيّ اللبناني جورج نصر (1927)؛ ويستعيد الثاني ـ "منير أبو دبس: في ظلّ المسرح" (34 د.) لريتا باسيل ـ محطات خاصّة بسيرة المسرحيّ التجديديّ اللبناني منير أبو دبس (1928 ـ 2016).
بهذا، يختلط الأدب بالسينما، وتنفتح الصورة على المسرح والفن السابع معاً، وتلتقط المَشَاهد لحظات تاريخية من سيرة فنان وبلد واجتماع وثقافة وتجارة، في محاولة بصرية للمقارنة بين ماضٍ لبناني، مفتوح على مداه العربيّ وأفقه الغربيّ، وراهنٍ يغلي بعنفٍ وانهياراتٍ وخوف وراتباكات، بالإضافة إلى ندرة في ابتكار الجديد والتجديديّ، وإنْ تتفرّد السينما في بيروت (ومدنٍ عربية أخرى) في إيجاد أشكالٍ مختلفة لابتكارٍ كهذا.
الاحتفال السينمائيّ في "صالونٍ" للكتاب الفرنكوفوني جزءٌ من حيوية مدينة، تعاني مآزق شتّى في أحوال العيش اليومي كافة. فالاجتماع اللبناني مُصاب بأعطابٍ، هي نتاج العطب الأساسي في السياسة والاقتصاد والإعلام والسلوك العام. وهو عطب تزداد حدّته مع الغليان الإقليمي الحاصل في محيط البلد، منذ نهاية العام 2010.
فالعنف المدوّي في سورية ينتقل إلى علاقاتٍ ملتبسة ومتشابكة المصالح بين مهرجانات سينمائية مُقامة في مدنٍ عربية، وسينمائيين سوريين، منقسمين على بعضهم البعض في ارتباطاتهم وعلاقاتهم وأهوائهم، المصنوعة وفقاً لرغبات ومصالح. انقسامات بين معارضين للنظام وموالين له، تنعكس على آلية عمل مهرجاناتٍ سينمائية، غالبيتها الساحقة مُموَّلة من السلطات الحاكمة، أو خاضعة لسطوتها. والحاصل، مؤخّراً، في "أيام قرطاج السينمائية" في تونس (اختيار "مطر حمص" لجود سعيد يؤدّي إلى سحب سامر العجوري فيلم التحريك القصير الخاص به "الولد والبحر") دليلٌ على الهوّة السحيقة القائمة ليس فقط بين سينمائيين سوريين، بل أيضاً بين مهرجانات عربية ومعنى الالتزام الأخلاقي بالفن السابع والثقافة والفنون، ومعنى الموقف الإنساني إزاء الجريمة المرتكبة في سورية.
والعطب حاضرٌ، أيضاً، في القاهرة، التي تعاني بلبلة فظيعة منذ أعوام عديدة، في يوميات عيشها. وما الخلل المتنوّع، الذي يكشفه "مهرجان القاهرة السينمائيّ الدوليّ" دورة بعد دورة، إلا أحد وجوه هذا العطب المصريّ. مثلٌ على ذلك؟ كيف يُمكن "التأكيد" على "تجديدٍ" يُراد للدورة الـ39 (21 ـ 30 نوفمبر/ تشرين الثاني 2017) أن تصنعه، طالما أن الممثلة يُسرا "رئيس شرف"، وحسين فهمي رئيس لجنة تحكيم المسابقة الدولية؟ ما الجديد في مسيرتهما الفنية والثقافية والإنسانية؟ ما التجديديّ في أعمالهما، الحديثة على الأقلّ؟
حكايات المدن العربية غير منتهية هنا، وإنْ تلتقي كلّها عند التناقض الحاصل بين رغبة السينما في استعادة ذاكرةٍ قبل اندثارها، وغرق سينمائيين في نزاعات ناتجة من فقدان البوصلة.