منذ قرابة قرن من الزمان، وفي فترة مبكرة من تاريخ السينما، أدرك نظام أدولف هِتلر النازي القدرات الدعائية الجبارة التي يملكها هذا الفن الوليد، وقدرته على التأثير في ملايين البشر.
لذلك وظّف جوزف غوبلز، وزير الدعاية السياسية في الحزب، كل الإمكانات المادية والبشرية لصناعة أفلام تمجد في نظام هتلر. وكان على قمة هذا المشروع أفلام المخرجة ليني ريڤنستال؛ تحديداً "انتصار الإرادة" (1935) و"أولمبياد" (1938). وعلى الرغم من القيمة السينمائية التي تحملها تلك الأفلام، والتطور التقني الكبير في التصوير والمونتاج الذي أضافته ريڤنستال، إلا أنها تعرَّضت للمحاكمة الدولية بعد الحرب العالمية الثانية بصفتها جزءاً من الآلة الدعائية للرايخ الثالث، ولم تستطع تقديم أي فيلم آخر حتى نهاية حياتها، ولم يتحدث أحد من السينمائيين أو النقاد عن قدرات ريڤنستال أو موهبتها أو ما يمكن أن تضيفه للسينما، بقدر ما كان الأهم في تلك اللحظة هو جريمة الدعاية لنظام دموي.
تلك الحكاية يبدو أن لها معنى في سياق الحديث عن فيلم "مطر حمص" للمخرج جود سعيد، الذي أنتجته المؤسسة العامة للسينما التابعة لوزارة الثقافة السورية في نظام بشار الأسد.
وتصدر الفيلم العناوين في الأيام الأخيرة، بعد عرضه في مهرجان "قرطاج" السينمائي في تونس، وإعلان المخرجة المصرية كاملة أبو ذكري، في منشور على "فيسبوك"، وبصفتها عضوة في لجنة تحكيم الأفلام الطويلة، رفضها منح أي جائزة للفيلم داخل المهرجان، وأنها ستقف أمام احتمالية عرضه في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي الذي ستعقد دورته الجديدة بعد أيام. وبشكل واضح كشفت أبو ذكري أنها رفضت أن يمنح الفيلم الذي كان ينافس على "التانيت الذهبي" لأفضل فيلم روائي طويل، أي جائزة. هكذا أثير الكثير من الجدل بين بعض السينمائيين العرب حول "الفن" وعلاقته بـ"السياسة"، وهل من الصواب أن يُمنع فيلم من الفوز بجائزة ما (بفرض استحقاقها) بسبب موقفه السياسي؟ ومن أجل فهم الصورة بشكل أكبر يمكن أخذ خطوة للوراء، والنظر إلى "مطر حمص" في سياقٍ زمني وسياسي وفني أوسع.
عام 2008 أخرج جود سعيد فيلمه الأول "مرة أخرى"، الذي عرض في مهرجان القاهرة السينمائي، وقال المخرج حينها إنه استلهم قصته من سيرته الشخصية، وكونه ابناً لضابط في الجيش السوري وعايش معه فترة الوجود العسكري في لبنان. من تلك الخلفية الشخصية كان سعيد مؤيداً لنظام الأسد منذ اندلاع الثورة السورية في 2011. ولم يكتفِ بهذا التأييد المُعلن، ولكنه أيضاً أخرج فيلمين طويلين، كلاهما من إنتاج النظام (مؤسسة السينما التابعة لوزارة الثقافة): الأول هو "صديقي الأخير" (2013)، والثاني "بانتظار الخريف" (2015)، الذي يحدد موقفه بداية من العنوان الساخر من مصطلح "الربيع العربي"، ويقوم الفيلم نفسه بالكامل على فكرة كيف دمّرت الثورة الحياة في سورية، ويحمل وجهة نظر النظام الحاكم عما حدث في السنوات الأخيرة؛ من الأيادي الخارجية وأثر وسائل التواصل وصولاً إلى تحميل الدمار والاقتتال بالكامل إلى ما يسميه الفيلم "المليشيات المسلحة".
في فيلمه الجديد "مطر حمص"، يصور جود سعيد على أنقاض مدينة حمص، بعد نهاية الاقتتال بين النظام والمعارضة السورية تحت إشراف الأمم المتحدة، وتدور أحداثه في عام 2014، عن عائلة تحاول النجاة بعد محاصرتها لشهور من قبل "الإرهابيين" (كما سماهم المخرج في أكثر من تصريح وحوار). وفي الوقت الذي اعتبر فيه البعض أن الفيلم يتعامل بحياد، ويتناول محاولة أبطاله البحث عن أمل والنجاة من أهوال الحرب، فإن الصورة الأوسع من حكاية الفيلم – وكما في عمل جود سعيد السابق ــ تبرئ النظام بالكامل من المآل المدمر للمدينة والناس، وتختصر المعارضة والثورة في كونها "مليشيات مسلحة" أو "جماعات إرهابية" أدت للخراب. ومع كون الفيلم منتجا تحت يافطة النظام، الممثل في وزارة الثقافة ومؤسسة السينما، فمن الصعب التعامل معه خارج سياق الدعاية و"البروباغندا"، تماماً مثلما كانت أفلام ليني ريڤنستال في عصر "هتلر".
من وراء كل هذا، جاء الموقف الحاد من المخرجة كاملة أبو ذكري، التي قالت إن "النظام السوري عامل فيلم اسمه مطر حمص، فيلم كاذب، يريد أن يعميك عن دم الأطفال، ودم العائلات"، معتبرة أن هذا الفن الدعائي هو أرخص أنواع الفنون، حيث – بحسب تعبيرها ــ "تجميل لنظامٍ وحشي".
من المنطقي ربما المناقشة حول "مهنية" أن يقوم عضو في لجنة تحكيم أحد المهرجانات بالتصريح بآرائه علناً، خصوصاً أن الفيلم لم يفز بالفعل بأي جائزة في "قرطاج"، ولكن في المقابل فإن الحوار الأهم هو المشروعية التي تمنح للفيلم ولمخرجه وللنظام الذي يتبنى وجهه نظره حين يُقبَل في مهرجانات عربية، لأن السينما لم تكن منقطعة الصلة بالسياسة إلى هذا الحد، خصوصاً حين يتعلق الأمر بما يمكن تسميته "جرائم حرب". وذلك منذ وقت هتلر ومحاكمة ريڤنستال، ووصولاً إلى مقاطعة وطرد مخرج بقيمة الدنماركي لارس فون ترير من مهرجان "كان" قبل عدة 6 أعوام حينما صرح بـ"تفهمه" لهتلر، ليعاقب بعدم عرض أي فيلم آخر له في "كان"، بعد قرابة الـ20 عاماً من منافسة كل أفلامه في المسابقة الرسمية. فإذا كان هذا هو موقف المهرجان الأعرق تجاه تصريح عن شخص وحدث إجرامي مر عليه 80 عاماً، فكيف يمكن الاستغراب عند الحديث عن السياسة والمشروعية الأخلاقية في فيلم "مطر حمص" ومخرجه جود سعيد قبل أي تناول فني أو تقني؟ الأمور غير منفصلة أبداً.
اقــرأ أيضاً
لذلك وظّف جوزف غوبلز، وزير الدعاية السياسية في الحزب، كل الإمكانات المادية والبشرية لصناعة أفلام تمجد في نظام هتلر. وكان على قمة هذا المشروع أفلام المخرجة ليني ريڤنستال؛ تحديداً "انتصار الإرادة" (1935) و"أولمبياد" (1938). وعلى الرغم من القيمة السينمائية التي تحملها تلك الأفلام، والتطور التقني الكبير في التصوير والمونتاج الذي أضافته ريڤنستال، إلا أنها تعرَّضت للمحاكمة الدولية بعد الحرب العالمية الثانية بصفتها جزءاً من الآلة الدعائية للرايخ الثالث، ولم تستطع تقديم أي فيلم آخر حتى نهاية حياتها، ولم يتحدث أحد من السينمائيين أو النقاد عن قدرات ريڤنستال أو موهبتها أو ما يمكن أن تضيفه للسينما، بقدر ما كان الأهم في تلك اللحظة هو جريمة الدعاية لنظام دموي.
تلك الحكاية يبدو أن لها معنى في سياق الحديث عن فيلم "مطر حمص" للمخرج جود سعيد، الذي أنتجته المؤسسة العامة للسينما التابعة لوزارة الثقافة السورية في نظام بشار الأسد.
وتصدر الفيلم العناوين في الأيام الأخيرة، بعد عرضه في مهرجان "قرطاج" السينمائي في تونس، وإعلان المخرجة المصرية كاملة أبو ذكري، في منشور على "فيسبوك"، وبصفتها عضوة في لجنة تحكيم الأفلام الطويلة، رفضها منح أي جائزة للفيلم داخل المهرجان، وأنها ستقف أمام احتمالية عرضه في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي الذي ستعقد دورته الجديدة بعد أيام. وبشكل واضح كشفت أبو ذكري أنها رفضت أن يمنح الفيلم الذي كان ينافس على "التانيت الذهبي" لأفضل فيلم روائي طويل، أي جائزة. هكذا أثير الكثير من الجدل بين بعض السينمائيين العرب حول "الفن" وعلاقته بـ"السياسة"، وهل من الصواب أن يُمنع فيلم من الفوز بجائزة ما (بفرض استحقاقها) بسبب موقفه السياسي؟ ومن أجل فهم الصورة بشكل أكبر يمكن أخذ خطوة للوراء، والنظر إلى "مطر حمص" في سياقٍ زمني وسياسي وفني أوسع.
عام 2008 أخرج جود سعيد فيلمه الأول "مرة أخرى"، الذي عرض في مهرجان القاهرة السينمائي، وقال المخرج حينها إنه استلهم قصته من سيرته الشخصية، وكونه ابناً لضابط في الجيش السوري وعايش معه فترة الوجود العسكري في لبنان. من تلك الخلفية الشخصية كان سعيد مؤيداً لنظام الأسد منذ اندلاع الثورة السورية في 2011. ولم يكتفِ بهذا التأييد المُعلن، ولكنه أيضاً أخرج فيلمين طويلين، كلاهما من إنتاج النظام (مؤسسة السينما التابعة لوزارة الثقافة): الأول هو "صديقي الأخير" (2013)، والثاني "بانتظار الخريف" (2015)، الذي يحدد موقفه بداية من العنوان الساخر من مصطلح "الربيع العربي"، ويقوم الفيلم نفسه بالكامل على فكرة كيف دمّرت الثورة الحياة في سورية، ويحمل وجهة نظر النظام الحاكم عما حدث في السنوات الأخيرة؛ من الأيادي الخارجية وأثر وسائل التواصل وصولاً إلى تحميل الدمار والاقتتال بالكامل إلى ما يسميه الفيلم "المليشيات المسلحة".
في فيلمه الجديد "مطر حمص"، يصور جود سعيد على أنقاض مدينة حمص، بعد نهاية الاقتتال بين النظام والمعارضة السورية تحت إشراف الأمم المتحدة، وتدور أحداثه في عام 2014، عن عائلة تحاول النجاة بعد محاصرتها لشهور من قبل "الإرهابيين" (كما سماهم المخرج في أكثر من تصريح وحوار). وفي الوقت الذي اعتبر فيه البعض أن الفيلم يتعامل بحياد، ويتناول محاولة أبطاله البحث عن أمل والنجاة من أهوال الحرب، فإن الصورة الأوسع من حكاية الفيلم – وكما في عمل جود سعيد السابق ــ تبرئ النظام بالكامل من المآل المدمر للمدينة والناس، وتختصر المعارضة والثورة في كونها "مليشيات مسلحة" أو "جماعات إرهابية" أدت للخراب. ومع كون الفيلم منتجا تحت يافطة النظام، الممثل في وزارة الثقافة ومؤسسة السينما، فمن الصعب التعامل معه خارج سياق الدعاية و"البروباغندا"، تماماً مثلما كانت أفلام ليني ريڤنستال في عصر "هتلر".
من وراء كل هذا، جاء الموقف الحاد من المخرجة كاملة أبو ذكري، التي قالت إن "النظام السوري عامل فيلم اسمه مطر حمص، فيلم كاذب، يريد أن يعميك عن دم الأطفال، ودم العائلات"، معتبرة أن هذا الفن الدعائي هو أرخص أنواع الفنون، حيث – بحسب تعبيرها ــ "تجميل لنظامٍ وحشي".
من المنطقي ربما المناقشة حول "مهنية" أن يقوم عضو في لجنة تحكيم أحد المهرجانات بالتصريح بآرائه علناً، خصوصاً أن الفيلم لم يفز بالفعل بأي جائزة في "قرطاج"، ولكن في المقابل فإن الحوار الأهم هو المشروعية التي تمنح للفيلم ولمخرجه وللنظام الذي يتبنى وجهه نظره حين يُقبَل في مهرجانات عربية، لأن السينما لم تكن منقطعة الصلة بالسياسة إلى هذا الحد، خصوصاً حين يتعلق الأمر بما يمكن تسميته "جرائم حرب". وذلك منذ وقت هتلر ومحاكمة ريڤنستال، ووصولاً إلى مقاطعة وطرد مخرج بقيمة الدنماركي لارس فون ترير من مهرجان "كان" قبل عدة 6 أعوام حينما صرح بـ"تفهمه" لهتلر، ليعاقب بعدم عرض أي فيلم آخر له في "كان"، بعد قرابة الـ20 عاماً من منافسة كل أفلامه في المسابقة الرسمية. فإذا كان هذا هو موقف المهرجان الأعرق تجاه تصريح عن شخص وحدث إجرامي مر عليه 80 عاماً، فكيف يمكن الاستغراب عند الحديث عن السياسة والمشروعية الأخلاقية في فيلم "مطر حمص" ومخرجه جود سعيد قبل أي تناول فني أو تقني؟ الأمور غير منفصلة أبداً.