فيلم الفرنسية أنياس فاردا ومواطنها المُصوّر الفوتوغرافي جي آر، "وجوه أماكن"، تعبيرٌ إبداعيّ وفتّان لـ"سينما الطاقة النقيّة"، وخاصيّاتها الديناميكية والانقلابية، التي تجلّت في اشتغالات قاماتٍ، أمثال كريس ماركر في "الرصيف" (1962)، والآن رينيه في "العام الأخير في ماريانباد" (1961)، والكتالاني ألبرت سيرا في "موت لويس الـ14" (2016)، وغيرهم.
سينما ذات اجتهادات مفتوحة الآفاق، تلتقط تواريخ بشر وسلالاتهم وطبقاتهم ومحيطهم، قبل أن تضعها في حيّز لا زمني، بتأويلاتٍ إيديولوجية وسياسية تحريضية، غالبًا. سينما طليعية وتجريبية بامتياز، لا تخشى ذوقًا فاسدًا وكسولاً، وتتحاشى الوقوع في هباء صوريّ، وانغلاق معرفيّ، بعيدًا عن مثاقفة فارغة ومملّة. ما تنشده، هو مُشَاهد متمكّن وحركيّ، وقابل للتطويع. هذا المُشاهد نفسه هو رجاء فاردا/ جي آر للجماعيّة، في مجتمعات غارقة بأنانياتها وماديتها.
يدعو "وجوه أماكن" إلى المثابرة والجسارة. فكرته تبدأ من لقاء بين كائنين، هوسهما الوجوه. يقول "هو"، المشهور بنظّارته الشمسية، في مفتتح الفيلم: "لم نلتقِ على قارعة طريق". تردّ "هي"، بأعوامها الـ88، وتسريحة شعرها المميّزة: "ولم نلتقِ في محطة حافلات". اجتماعهما حَدَث في زمن سينمائي متبدّل. فـ"هو" يكشف عن شغف قديم بـ"وجه" ممثلة "كليو من 5 إلى 7" (1962) لفاردا، فيما تخبرنا "هي"، لاحقًا، عن إعجاب متأخّر، بصورة وجهي عجوزين كوبيين، ألصقها فوق جدران مصدّعة، مستغربة عثرة حظ لم تقاطع بينهما من قبل.
ما يلي التلاقي، هو تشكّل كون سينمائي، مدته 90 دقيقة، نفّذه 7 مدراء تصوير، ويقوم على "عفويّة مغامرة"، بحسب صاحبة "بلا سقف أو قانون" (1985). وكما عنوانه، فإنّ "قنص" صُوَر وجوه مواطنين عاديين، يعيشون في أماكن مختلفة، هو مبتغاه، يتمّ من داخل سيارة "فان"، حوّلها جي آر إلى كاميرا عملاقة نقّالة، تصبح بؤرة متعتهما في لقاء غرباء، سرعان ما يتآلفون ويُشاركون في جلسات تصويرية، تقترب من يوتوبيا أوبرالية ذات مسرح فسيح، تنتج سلسلة بورتريهات مقرّبة (كلوز أب)، تُلزَق على واجهات عارية، وحيطان قديمة، وأبواب منسية، وحاويات جبارة، ومكامن عسكرية نازية مهجورة، وشوارع مزدحمة، ضمن استعراض تجهيزي لا مثيل في ابتكاره.
هذا نصّ هائج بالتفاؤل، ومفعم بالحركة. يمتدح ـ بلا ادّعاء ـ غبطة ربانيّة من حولنا. تتحوّل فيها قرى وبلدات وشواطئ ودكاكين ومعامل وموانئ، وحتى اسم المعلّم السينمائي جان ـ لوك غودار، إلى نشوات متتابعة، تدفع مشاهدها الى التبصّر بالحياة، كونها ليست يومًا عابرًا أو حدثًا يسقط من تاريخ كينونة ما، أو مغزى فاسدًا للوجود عند كائن مضيَّع.
اقــرأ أيضاً
الدنيا، في "وجوه أماكن"، نهج معقّد، يصنعه أبناء الله على أرضه، بعزم دهري، وعناد للاستمرار في عيشهم عليها. سلاحهم إلفتهم. عليه، فليس لدى فاردا/ جي آر أيّ تَسَتّر مشهديّ، أو حيل تقنية، أو اقتطاعات لمصائر هؤلاء العابرين، بل دعوة تفاعلٍ مع اكتشافات لا حدّ لها، ما تحتاج إليه هو خدش حيائها، كي تتفجّر دهشتها الإنسانية.
تُرى، ما الذي يدفعنا إلى البهجة؟ جواب الثنائي، هنا، مُحفِّز وأصيل: الاستبشار. ذلك أنّ الصورة لديهما قرينة مبتكرة وفاتنة للسعادة، وكلّ واحدة تُلصَق، يعني أن تاريخًا جديدًا كُتب لصاحبها/تها. إنّه خلود مزدوج. فمن ناحية، تَصنَع عدسة المصوّر لحظة فوتوغرافية سرمدية. تقول فاردا: "أصوِّر الوجوه فورًا، كي لا تضيع في فجوات ذاكرتي". بينما توثِّق كاميرا السينمائي مشهدًا عامًا، ستتكرَّر عروضه على الشاشات ملايين المرّات. سنرى صُوَر أُناسٍ يقضمون خبزًا فرنسيًا طويلاً، على جدار ريفي. وأخرى قديمة، لعمّال مناجم فحم، على جدران منازلهم قبل هدمها، تحية لحقبة مؤلمة. أما حكاية الفلاح إميل، الذي خطف حبيبته إميلي ليتزوّجها، مطلع القرن الـ20، فستجد سرمديتها عبر صورتهما الباهتة، وهي مُلصقة على جدار منزل حفيديهما، عام 2016. ولن يُنسى الفصل الخاص بعمّال مصنع كيميائيات، ولقطتهم الجماعية الراقصة، و"خلودها" تحت هواء طلق.
تصبح المرأة، ضئيلة الحجم، أكبر من ظنون الآخرين. سيدة ديناميكية وخلاّقة، تعلن: "أنا لا أُخفي شيئًا مطلقًا. أنا أعيش الحياة". تقودنا إلى قلب طاقتها النقيّة.
تتحوّل سرديات فاردا/ جي آر وزبائنهما إلى عناوين لقِيَمِ مثل التكافل، كما في حكاية ساعي البريد، وكرم الفلاّحين معه؛ والقناعة، كما لدى جامع الخردوات، الفنان بوني؛ والشفاعات، كما في قصّة راعية ترفض إزالة قرون ماعزها؛ والعرفان، كما في زيارتهما قبر معلّم التصوير كارتييه بروسّون؛ والتجسيد التهكمي لركضهما الشهير في أروقة الـ"لوفر"، تشبهًا بشخصيات فيلم غودار، "فرقة الغرباء" (1964)، ليختتما سفرتهما عند باب منزله في البلدة السويسرية "لور"، سعياً إلى لقائه. بيد أن "جاكو" ـ الغائب عن صورتهما ـ سيتجلّى في مقطع سحري، عندما يخلع جي آر نظّارته الداكنة، لمرّة واحدة وأخيرة، أمام ناظري شريكته السينمائية، كما فعلها مخرج "وداعًا للّغة " (2014)، بعد إلحاح مخرجة شابة تدعى أنياس فاردا، اكتشف موهبتها في ستينيات قرنٍ مضى، كي تصوّر بريق عينيه، قبل أن تثوِّر فينا ـ عبر "وجوه أماكن" ـ مزاج السينما، وتُمتِّن إيماننا بعجائب طاقتها النقيّة.
سينما ذات اجتهادات مفتوحة الآفاق، تلتقط تواريخ بشر وسلالاتهم وطبقاتهم ومحيطهم، قبل أن تضعها في حيّز لا زمني، بتأويلاتٍ إيديولوجية وسياسية تحريضية، غالبًا. سينما طليعية وتجريبية بامتياز، لا تخشى ذوقًا فاسدًا وكسولاً، وتتحاشى الوقوع في هباء صوريّ، وانغلاق معرفيّ، بعيدًا عن مثاقفة فارغة ومملّة. ما تنشده، هو مُشَاهد متمكّن وحركيّ، وقابل للتطويع. هذا المُشاهد نفسه هو رجاء فاردا/ جي آر للجماعيّة، في مجتمعات غارقة بأنانياتها وماديتها.
يدعو "وجوه أماكن" إلى المثابرة والجسارة. فكرته تبدأ من لقاء بين كائنين، هوسهما الوجوه. يقول "هو"، المشهور بنظّارته الشمسية، في مفتتح الفيلم: "لم نلتقِ على قارعة طريق". تردّ "هي"، بأعوامها الـ88، وتسريحة شعرها المميّزة: "ولم نلتقِ في محطة حافلات". اجتماعهما حَدَث في زمن سينمائي متبدّل. فـ"هو" يكشف عن شغف قديم بـ"وجه" ممثلة "كليو من 5 إلى 7" (1962) لفاردا، فيما تخبرنا "هي"، لاحقًا، عن إعجاب متأخّر، بصورة وجهي عجوزين كوبيين، ألصقها فوق جدران مصدّعة، مستغربة عثرة حظ لم تقاطع بينهما من قبل.
ما يلي التلاقي، هو تشكّل كون سينمائي، مدته 90 دقيقة، نفّذه 7 مدراء تصوير، ويقوم على "عفويّة مغامرة"، بحسب صاحبة "بلا سقف أو قانون" (1985). وكما عنوانه، فإنّ "قنص" صُوَر وجوه مواطنين عاديين، يعيشون في أماكن مختلفة، هو مبتغاه، يتمّ من داخل سيارة "فان"، حوّلها جي آر إلى كاميرا عملاقة نقّالة، تصبح بؤرة متعتهما في لقاء غرباء، سرعان ما يتآلفون ويُشاركون في جلسات تصويرية، تقترب من يوتوبيا أوبرالية ذات مسرح فسيح، تنتج سلسلة بورتريهات مقرّبة (كلوز أب)، تُلزَق على واجهات عارية، وحيطان قديمة، وأبواب منسية، وحاويات جبارة، ومكامن عسكرية نازية مهجورة، وشوارع مزدحمة، ضمن استعراض تجهيزي لا مثيل في ابتكاره.
هذا نصّ هائج بالتفاؤل، ومفعم بالحركة. يمتدح ـ بلا ادّعاء ـ غبطة ربانيّة من حولنا. تتحوّل فيها قرى وبلدات وشواطئ ودكاكين ومعامل وموانئ، وحتى اسم المعلّم السينمائي جان ـ لوك غودار، إلى نشوات متتابعة، تدفع مشاهدها الى التبصّر بالحياة، كونها ليست يومًا عابرًا أو حدثًا يسقط من تاريخ كينونة ما، أو مغزى فاسدًا للوجود عند كائن مضيَّع.
الدنيا، في "وجوه أماكن"، نهج معقّد، يصنعه أبناء الله على أرضه، بعزم دهري، وعناد للاستمرار في عيشهم عليها. سلاحهم إلفتهم. عليه، فليس لدى فاردا/ جي آر أيّ تَسَتّر مشهديّ، أو حيل تقنية، أو اقتطاعات لمصائر هؤلاء العابرين، بل دعوة تفاعلٍ مع اكتشافات لا حدّ لها، ما تحتاج إليه هو خدش حيائها، كي تتفجّر دهشتها الإنسانية.
تُرى، ما الذي يدفعنا إلى البهجة؟ جواب الثنائي، هنا، مُحفِّز وأصيل: الاستبشار. ذلك أنّ الصورة لديهما قرينة مبتكرة وفاتنة للسعادة، وكلّ واحدة تُلصَق، يعني أن تاريخًا جديدًا كُتب لصاحبها/تها. إنّه خلود مزدوج. فمن ناحية، تَصنَع عدسة المصوّر لحظة فوتوغرافية سرمدية. تقول فاردا: "أصوِّر الوجوه فورًا، كي لا تضيع في فجوات ذاكرتي". بينما توثِّق كاميرا السينمائي مشهدًا عامًا، ستتكرَّر عروضه على الشاشات ملايين المرّات. سنرى صُوَر أُناسٍ يقضمون خبزًا فرنسيًا طويلاً، على جدار ريفي. وأخرى قديمة، لعمّال مناجم فحم، على جدران منازلهم قبل هدمها، تحية لحقبة مؤلمة. أما حكاية الفلاح إميل، الذي خطف حبيبته إميلي ليتزوّجها، مطلع القرن الـ20، فستجد سرمديتها عبر صورتهما الباهتة، وهي مُلصقة على جدار منزل حفيديهما، عام 2016. ولن يُنسى الفصل الخاص بعمّال مصنع كيميائيات، ولقطتهم الجماعية الراقصة، و"خلودها" تحت هواء طلق.
تصبح المرأة، ضئيلة الحجم، أكبر من ظنون الآخرين. سيدة ديناميكية وخلاّقة، تعلن: "أنا لا أُخفي شيئًا مطلقًا. أنا أعيش الحياة". تقودنا إلى قلب طاقتها النقيّة.
تتحوّل سرديات فاردا/ جي آر وزبائنهما إلى عناوين لقِيَمِ مثل التكافل، كما في حكاية ساعي البريد، وكرم الفلاّحين معه؛ والقناعة، كما لدى جامع الخردوات، الفنان بوني؛ والشفاعات، كما في قصّة راعية ترفض إزالة قرون ماعزها؛ والعرفان، كما في زيارتهما قبر معلّم التصوير كارتييه بروسّون؛ والتجسيد التهكمي لركضهما الشهير في أروقة الـ"لوفر"، تشبهًا بشخصيات فيلم غودار، "فرقة الغرباء" (1964)، ليختتما سفرتهما عند باب منزله في البلدة السويسرية "لور"، سعياً إلى لقائه. بيد أن "جاكو" ـ الغائب عن صورتهما ـ سيتجلّى في مقطع سحري، عندما يخلع جي آر نظّارته الداكنة، لمرّة واحدة وأخيرة، أمام ناظري شريكته السينمائية، كما فعلها مخرج "وداعًا للّغة " (2014)، بعد إلحاح مخرجة شابة تدعى أنياس فاردا، اكتشف موهبتها في ستينيات قرنٍ مضى، كي تصوّر بريق عينيه، قبل أن تثوِّر فينا ـ عبر "وجوه أماكن" ـ مزاج السينما، وتُمتِّن إيماننا بعجائب طاقتها النقيّة.