يتراجع خطر الجماعات "الإسلامية" المتطرفة على أميركا بينما يتصاعد الإرهاب الداخلي وخاصة من جماعات يمينية ويسارية راديكالية، في ظل تغيرات ثقافية واجتماعية متنامية يمر بها المجتمع فيما تعقد ضمانات حرية التعبير مواجهتها.
- يتخوف مارك بوتوك، الباحث الأميركي في مركز تحليل اليمين الراديكالي (بحثي مقره لندن)، من أن تشهد الولايات المتحدة الأميركية نشاطا متزايدا لـ"الإرهاب الداخلي" في ظل تزايد عمليات القتل الجماعي على يد اليمينيين المتطرفين، مشيرا إلى ما حدث في مدينة إل باسو في ولاية تكساس عام 2019، حين أطلق يميني متطرف النار في متجر وال مارت وقتل 23 شخصا وأصاب 23 آخرين، وكذلك حادثة مدينة بوفالو غرب نيويورك في مايو/أيار 2022، إذ قتل أحد أتباع نظرية الاستبدال العظيم (يروجون لمؤامرة مزعومة تستبدل البيض بالأقليات) 10 أشخاص وجرح 3 آخرين من الأميركيين الأفارقة داخل بقالة، قائلا "أالبلاد لم تشهد يمينا متطرفا مثل الذي ينشط فيها اليوم".
ويعرف مكتب التحقيقات الفيدرالي FBI الإرهاب الداخلي بأنه "الأعمال الإجرامية العنيفة التي يرتكبها الأفراد أو الجماعات لتحقيق أهداف أيديولوجية نابعة من التأثيرات المحلية السياسية أو الدينية أو الاجتماعية أو العرقية أو البيئية".
"وبينما سُجل عمل إرهابي داخلي واحد من أصل 65 حادثة عنف وقعت في عام 2019، خلال المظاهرات التي شهدتها البلاد، أي ما نسبته 2℅ فقط، قفزت النسبة عام 2020 إلى 47%، وكان عددها 52 حادثة من أصل 110 على صلة بالإرهاب الداخلي، وزادت مرة ثانية في عام 2021، إذ وقعت 41 حادثة إرهاب داخلي من أصل 77، أي ما نسبته 53%، بحسب تقرير الدفع لأقصى حد: الإرهاب الداخلي وسط الاستقطاب والاحتجاج، الصادر في 17 مايو/أيار 2022 عن مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (منظمة بحثية أميركية).
فئات المتطرفين
يقسم تقرير مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية المتطرفين إلى 4 فئات وفقا للأيديولوجيات المصنفة إرهابيا في أميركا، وهي اليمين المتطرف العنيف، واليسار المتطرف العنيف، والجماعات الدينية، والعرقية.
وعادة ما يكون الدافع وراء إرهابيي اليمين المتطرف العنيف أفكار السيادة العرقية أو الإثنية مثل جماعات تفوق العرق الأبيض White Supremacists، والذين يعتقدون أن للبيض ثقافة مختلفة، وأنهم متفوقون على بقية الشعوب لذا يجب أن تكون القيادة لهم، والفئة الثانية هي المليشيات المناهضة للحكومة Anti-government extremists، وهؤلاء يعتقدون أن الحكومة الفيدرالية فاسدة وتهدد حقوق المواطنين وحرياتهم؛ كما هو الحال في معارضتهم للسياسات الحكومية في التعامل مع كوفيد 19؛ والثالثة قائمة على الكراهية على أساس الجنس أو الهوية الجنسية، مثل الجماعات التي تنادي بكراهية النساء، كجماعة incels (عازب لا إراديا)؛ والتي تدعو للعنف ضد المرأة لاعتقادهم بأن لديها قوة القرار في العلاقات العاطفية وتساهم في تعاستهم برفضها لهم، وتعتقد أيضا أن مكانة الشخص في المجتمع تتحدد بالخصائص الجنسية.
أما بالنسبة للجماعات اليسارية ذات الخطاب المتطرف، فتتمثل دوافعها في معارضة الرأسمالية أو الإمبريالية أو الاستعمار، بينما تدعم القضايا البيئية وحقوق الحيوان، والمعتقدات المؤيدة للشيوعية أو الاشتراكية بحسب التقرير السابق.
وبلغ عدد الهجمات الإرهابية التي شهدتها الولايات المتحدة الأميركية 893 هجوما في الفترة الممتدة بين عامي 1994 و2020، بحسب ما جاء في تقرير بعنوان تصاعد مشكلة الإرهاب في الولايات المتحدة الأميركية، الصادر في 17 يونيو/حزيران 2020، عن مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، والذي رصد البيانات من منظمات مختصة في رصد جرائم الكراهية والتطرف ومكتب التحقيقات الفيدرالي، ويشير التقرير إلى أن الحصيلة الأكبر من الضحايا كانت نتيجة هجمات الحادي عشر من سبتمبر/تشرين الثاني 2001، والتي خلفت 2977 قتيلا، إلا أن 57℅ من الهجمات الإرهابية التي شهدتها البلاد نُسبت للإرهابيين اليمينيين (Right-wing terrorists)، وراح ضحيتها 335 شخصا، ونُسب 25℅ منها للإرهابيين اليساريين (Left wing terrorists)، وراح ضحيتها 22 شخصا، فيما ارتكبت الجماعات الدينية 15℅ من تلك الهجمات.
ويقارن البروفيسور غاري لافري، أستاذ علم الجريمة والعدالة الجنائية في جامعة ماريلاند والمدير السابق للاتحاد الوطني لدراسة الإرهاب (مركز تابع لوزارة الأمن الداخلي يبحث في انعكاسات الإرهاب على أميركا والعالم) بين تأثير اليمين المتطرف والجماعات الإسلامية المتطرفة على أميركا، مؤكدا أن هجوم اليمين المتطرف أصبح الخطر الأكبر على البلاد، إذ بات تأثيرهم أكثر تعقيدا في ظل وجود العشرات من الجماعات الصغيرة المختلفة أيديولوجيا وغالبيتها نفذت هجمات، حتى وإن كانت هجمات قليلة، في حين يتناقص تأثير الجماعات الإسلامية مثل القاعدة وداعش.
لماذا تصاعدت خطورة اليمين المتطرف؟
بلغ عدد ضحايا العنف المرتكب من قبل الجماعات المتشددة بمختلف توجهاتها السياسية والأيديولوجية عام 2021، 29 قتيلا في 19 هجوما متفرقا، حسب تقرير (القتل والتطرف في الولايات المتحدة عام 2021) الصادر في 5 مارس/آذار 2022 عن رابطة مكافحة التشهير ADL (تحارب التطرف ومعاداة السامية)، وتعد الجماعات اليمينية المتطرفة مسؤولة عن مقتل 26 منهم، فيما قتل أفراد من القوميين السود التابعين للجماعات اليسارية شخصين، كما يشير التقرير ذاته إلى مقتل شخص واحد على يد عمران علي رشيد، وكانت الضحية سائقة تابعة لشركة النقل Lyft في ولاية تكساس، ثم أشعل رشيد النار داخل مكتب للشرطة، ليكشف مكتب التحقيقات الفيدرالي أنه كان محل شكوك حول صلته بمنظمات إرهابية، إذ ترك ملاحظات تبين أن ما قام به قد يكون مستوحى من تلك المنظمات.
ويعزو بوتوك بروز اليمين المتطرف في أميركا لمجموعة من التغيرات الاجتماعية والثقافية التي شهدها المجتمع ويتفق معه جون سايمون، السفير الأميركي لدى الاتحاد الأفريقي عام 2008، مشيرا إلى سببين رئيسيين، أولهما عدم رضا الناس عن اداء الحكومة، ويعود السبب الثاني للاختلاف الثقافي الحاصل بسبب الهجرة، إذ يوجد العديد من الأشخاص في الولايات المتحدة الأميركية والدول الغربية عامة غير راضين عن التغيير الحاصل في مجتمعاتهم بسبب المهاجرين القادمين إليها، وهذا نابع من شعورهم بأن حظوظهم في الحصول على الوظيفة التي يحلمون بها تتناقص بتزايد المهاجرين.
بينما يرجح المحامي وعضو الحزب الجمهوري كمال نعواش، أن يكون سبب حالات القتل الجماعي باستخدام السلاح اجتماعيا أو نفسيا أو مرتبطا بأسباب أخرى شخصية، فالمجتمع الأميركي اليوم، على حد تعبيره، مليء بعائلات غير مستقرة وأطفال يكبرون في وسط محفوف بالمخاطر، ما يجعلهم يميلون للعنف في المستقبل.
استهداف قوى الأمن
وضع تصاعد الإرهاب المحلي في أميركا الأجهزة الأمنية أمام معضلة تأمين المدن الكبرى مثل بورتلاند وسياتل ونيويورك ولوس أنجليس وواشنطن العاصمة، وهي مدن باتت تشكل نقاطا محورية للإرهاب الداخلي، إذ يجتمع فيها المتشددون من الطرفين، اليمين واليسار، في مواجهة أجهزة إنفاذ القانون، وكذلك في مواجهة بعضهم البعض كما حصل في هجوم نفذه اليميني المتطرف دينيس جي أندرسون، في 22 أغسطس/آب 2021، إذ اجتمع المتطرفون المناهضون للحكومة والمناهضون للقاحات في بورتلاند، بولاية أوريغون على الساحل الغربي للبلاد، لحضور حدث بعنوان صيف الحب: متحدون نقف منقسمون نسقط، والذي كان يهدف إلى الاحتجاج على لقاحات Covid-19، وكذلك المطالبة بالإفراج عن الأفراد الذين تم اعتقالهم خلال الهجوم على مبنى الكابيتول، وخلال ذلك تفوه أندرسون بشعارات عنصرية، ثم بدأ في إطلاق النار على المتظاهرين اليساريين التابعين لحركة انتيفا، لكن الشرطة تمكنت من إلقاء القبض عليه قبل أن يودي بحياة أحد، بحسب تقرير دُفع إلى التطرف.
شكلت مواقع وأفراد الأمن الهدف الأول لأعمال الإرهاب الداخلي عام 2021
وكانت مواقع وأفراد الحكومة والجيش والشرطة الهدف الأول لأعمال الإرهاب الداخلي عام 2021، وكان أبرز مثال هو الاقتحام العنيف لمبنى الكابيتول الأميركي في 6 يناير/كانون الثاني 2021 من قبل من حاولوا إيقاف التصديق على نتائج الانتخابات الرئاسية لعام 2020، بحسب التقرير آنف الذكر.
وفي هجوم آخر استهدف مبنى الكابيتول في إبريل/نيسان 2021، باغت شخص يدعى نوه غرين، له صلة بجماعة القوميين السود، ضابطي شرطة بسيارته، فقتل واحد وأصيب آخر بجروح، ثم ترجل من سيارته ليقتل شرطيا ثانيا باستعمال سكين. ولقي شرطي ثالث حتفه على يد أوثال والاس في أغسطس/آب 2021، بولاية فلوريدا، وتبين أن الجاني له صلات بجماعات يسارية متطرفة من بينها حزب الفهود السود الجديد (حركة عنيفة نشطت بين الأميركيين الأفارقة)، حسب تقرير القتل والتطرف في الولايات المتحدة، الصادر في 5 مارس/آذار 2022، عن رابطة مكافحة التشهير.
ضمانات حرية التعبير تُعقد تصنيف التطرف
على عكس الجماعات الإرهابية الأجنبية التي تمتلك وزارة الخارجية الأميركية قائمة بأسمائها، لا يوجد تصنيف رسمي للجماعات المتطرفة المحلية باعتبارها كيانات إرهابية بحسب توضيح لافري، مرجعا عدم وصم الجماعات المتطرفة المحلية بالإرهاب إلى التعقيدات التي تفرضها الضمانات الدستورية المتعلقة بحرية التعبير والدين والتجمع، والحق في امتلاك السلاح.
ضمانات حرية التعبير تُعقد تصنيف الجماعات المتطرفة ضمن الكيانات الإرهابية
وإن كانت الضمانات الدستورية تعرقل التصنيف الرسمي للجماعات المتطرفة المحلية، لكنها بحسب بوتوك لا تضعف قدرة الحكومة على مواجهة نشاطاتها، بل في بعض الحالات تُسهل حرية التعبير والتجمع من تعقبها، وتسمح بالتدخل الأمني قبل حدوث الهجوم. ويتفق معه في ذلك نعواش، قائلا: "إن الضمانات الدستورية لحرية التعبير وحرية التجمع لا تؤثر على محاربة ما يسمى بالإرهاب المحلي، فالقانون، وفقا لتوضيحه، يعاقب على الفعل لا على الكلام، لأن هناك أشخاصا يتكلمون دون أن يفعلوا وإذا أُلقي القبض على كل من يقول شيئا يُعتقد أنه سيؤدي إلى عنف أو شيئا لا نتفق معه، فسينتهي بنا المطاف إلى اعتقال الجميع".
توقعات بازدياد العنف
تتوقع وزارة الأمن الداخلي الأميركية ارتفاع التهديدات الأمنية الداخلية في البلاد خلال الأشهر المقبلة، وتبين في نشرة النظام الوطني للاستشارات حول الإرهاب، التي أصدرتها في 7 يونيو/حزيران عام 2022، أن العنف يحتمل أن يطال المؤسسات الدينية والمدارس والأقليات العرقية والدينية، والموظفين الحكوميين والبنية التحتية الحيوية للولايات المتحدة.
وتواجه الولايات المتحدة الأميركية تهديدا متزايدا من المجموعات الصغيرة التي تحركها المعتقدات الأيديولوجية أو المظالم الشخصية أو ردود الفعل على الأحداث الجارية، وكذك الدوافع العرقية أو الاحتجاج على سياسات الحكومة، بالإضافة إلى تهديدات من المنظمات الإرهابية التي تعد خصوما للدولة.
لكن هل سيرتبط تصاعد العنف الداخلي بنتائج الانتخابات الرئاسية لعام 2024؟ يوضح لافري أنه لا يمكن الجزم بأن أحداث العنف التي افتعلها مناصرو الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، عقب تفتيش مكتب التحقيقات الفيدرالي منزله في فلوريدا في 9 أغسطس/آب 2022، ستتكرر، لكنه لا ينفي وجود مخاوف من تكرارها في حال خسارته في الانتخابات المقبلة، بخاصة أن ما حصل في ذلك الحين يكشف أن مناصريه يصدقونه في كل ما يقوله. أما بوتوك فيرجح حدوث أعمال عنف محلية إذا خسر ترامب، ومرد ذلك إلى أنه أقنع أتباعه، بمن فيهم غالبية الجمهوريين في الولايات المتحدة الأميركية، بأن انتخابات 2020 سرقتها منه ما يسمى بـ"الدولة العميقة"، وانخرط أنصاره في العنف السياسي نتيجة تصديق ادعائه. وهو ما تدعمه نتائج استطلاع رأي نشره مركز الأبحاث الأميركي (بيو) في 23 أغسطس/آب 2022، يبين أن 63% من المستطلعة آراؤهم يريدون أن يبقى ترامب كشخصية سياسية بارزة في الحزب الجمهوري لعدة سنوات قادمة، أما 39% منهم فيريدونه رئيسا عام 2024.
ومن جانبه، يعتقد الكاتب والمحلل السياسي محمد عويس، أميركي من أصول عربية، أن ما حدث في السادس من يناير/كانون الثاني عام 2021، عندما اقتحم أنصار ترامب مبنى الكونغرس، لا يمكن أن يتكرر في 2024 في حال ترشح ترامب وخسر، لأن من اقتحموا مبنى الكونغرس وافتعلوا العنف يدركون أن الأمر سيكلفهم وجودهم بدليل المتابعات القضائية على خلفية الاقتحام، لذا فالوارد، حسب رأيه، هو حدوث عمليات متفرقة وغير منظمة، لأن الجماعات المتطرفة التي تستغل الدستور الأميركي الذي يسمح بحمل السلاح وتشكيل مليشيات تعلم جيدا أنه سيُقضى عليها من طرف أجهزة الأمن في اليوم الذي تصبح فيه منظمة وتشكل خطرا حقيقيا على البلاد.
ويرى الباحث في مجلس العلاقات الأميركية الإسلامية "كير" حذيفة شهباز، أن الجماعات المتطرفة كونها غير مصنفة إرهابية بطريقة رسمية فإنها تنشط بكل حرية، ولا يترتب على لقائها بالسياسيين وتنسيقهم مع أعضائها أية عواقب قانونية، مستشهدا بالعلاقة بين الجماعات اليمينية المتطرفة وبعض السياسيين من الحزب الجمهوري، حيث حضر نائبان جمهوريان، وهما مارجوري تايلور جرين ممثلة جورجيا، وبول جوسار ممثل ولاية أريزونا، مؤتمر مناصري القومية البيضاء في فبراير/شباط 2022 في أورلاندو وسط ولاية فلوريدا، وهذا دليل آخر على علاقة بعض الساسة الجمهوريين بالجماعات اليمينية المتطرفة.