يستذكر الفنان التشكيلي السوري عدي أتاسي، أكثر المواقف العنصرية تأثيرا فيه منذ انتقاله إلى قبرص في عام 1987، قائلا: "شاركت بلوحة فنية في معرض وحظيت باهتمام وزارة الثقافة القبرصية حتى أنها حجزتها لشرائها، ثم تراجعت حين علم المسؤولون بأن صاحب اللوحة سوري".
لا يعد هذا الموقف فريدا في عملية توثيق النظرة العنصرية للأجانب كما يضيف أتاسي، إذ كان شاهداً على حالة الاستقطاب الاجتماعي والديني في الجزيرة بين اليونانيين والأتراك والمستمر منذ عقود كما يقول، مضيفا أن زواجه بصحافية قبرصية واستقراره في الجزيرة، وحتى حصوله على الجنسية في عام 2003، لم ينسه ما جرى عندما ذهب إلى دائرة الهجرة والأجانب لتثبيت عقد زواجه عام 1988، إذ سأل شرطي زوجته "لماذا ستتزوجين سوريا مسلما؟ غدا سوف يسرق أموالك وأطفالك".
استقبال مطول في مراكز مؤقتة
يمكث اللاجئ السوري يوسف أبو خالد منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2020 في مركز الاستقبال المؤقت "بورنارا" الواقع في ريف نيقوسيا، ويعبر عن خوفه من استمرار معاناته في المكان المخصص أصلا لاستقبال اللاجئين لفترة لا تزيد عن 72 ساعة، لكنه صار يضم 609 لاجئين بحسب تقرير صادر عن المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين مطلع العام، ويقول يوسف إن بينهم من ينتظر منذ 100 يوم في المركز المفتقر لعدد كاف من الموظفين المخولين بإجراء المقابلات معهم.
وإلى أن تتم الإجراءات القانونية يتجه غالبية اللاجئين إلى أقاربهم، أو يخرجون من مركز الاستقبال بعقود إيجار وهمية بحثا عن فرصة للعيش، وعادة ما يواجهون صعوبات في التواصل بسبب عدم وجود برامج تأهيل للاجئين، وصعوبة اللغة اليونانية، بحسب أبو خالد.
وتلقت السلطات المعنية في قبرص 7036 طلب لجوء جديدا عام 2020 من بينها 220 نيابة عن الأطفال غير المصحوبين أو المنفصلين عن ذويهم، ما رفع عدد الطلبات المتراكمة على مدار العام إلى 20000 طلب، حسب تقرير صادر عن المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في قبرص في الأول من إبريل/نيسان 2021، لكن التقرير أِشار إلى انخفاض الطلبات الجديدة بنسبة 44.7% عن عام 2019.
سورية تتصدر قائمة الدول التي يتحدر منها اللاجئون إلى قبرص
وتأتي سورية على رأس قائمة الدول التي يتحدر منها اللاجئون إلى قبرص خلال عام 2020 وبعدها الهند والكاميرون وبنغلاديش وباكستان وجمهورية الكونغو الديمقراطية ونيجيريا ونيبال وجورجيا ومصر، وبحسب التقرير ذاته منحت دائرة اللجوء الحكومية وهيئة مراجعة شؤون اللاجئين وضع اللاجئ لـ 172 شخصا منهم 21 سوريا، ومُنح 1512 طالب لجوء وضع الحماية الفرعية منهم 1404 سوريين.
ويظهر التقرير أن السنوات الأربع الماضية شهدت انخفاضا تدريجيا في نسبة طالبي اللجوء السوريين على وجه التحديد، في عام 2018 كان 26٪ من المتقدمين سوريين، وفي عام 2017 جاء 39٪ من طالبي اللجوء من سورية. وفي عام 2016، كانت نسبة طالبي اللجوء السوريين 41٪ من إجمالي عدد طالبي اللجوء.
تفشي العنصرية
في الخامس والعشرين من مارس/آذار 2021، ظهرت شعارات عنصرية على جدران مسجد في قرية إبيسكوبي في مدينة ليماسول جنوب قبرص، من ضمنها "الأتراك سوف يموتون"، وجرى رسم الأعلام اليونانية والصليب على جدرانه بطلاء أزرق، بالتزامن مع الذكرى المئوية الثانية لإعلان استقلال اليونان عن تركيا. ودانت الحكومة القبرصية في اليوم ذاته هذه الحادثة، على لسان المتحدث باسم الحكومة كيرياكوس كوسيوس، بقوله "إن مثل هذه الأعمال الخبيثة لا تسهم بأي شكل من الأشكال في خلق المناخ المناسب الذي نسعى إليه في جهودنا لإيجاد حل لمشكلة قبرص وإعادة توحيد وطننا".
وتكررت هذه الحادثة ثلاث مرات وفق ما قاله عمدة القرية ليفكيوس برودرومو، في تصريحات صحافية، إذ تعرض مسجد "جديت" في المدينة ذاتها لهجوم حارق في الأول من يونيو/حزيران 2020، وكُتب على جداره رسالة عنصرية مفادها "المهاجرون، الإسلام غير مرحب به". ما يعتبره برودرومو "أمرا محزنا أن يحدث هذا من قبل أشخاص بلا عقل ينجحون فقط في فضح قبرص في الخارج".
وتبين إحصائيات مكتب مناهضة التمييز في قسم مكافحة الجريمة التابع لقيادة شرطة قبرص، المنشورة على الموقع الإلكتروني لوزارة العدل والنظام العام القبرصية في مايو/أيار 2020، أن عدد الحوادث أو القضايا العنصرية في قبرص بين عامي 2005 وحتى نهاية عام 2019 وصل إلى 317 قضية، منها 147 قضية على خلفية الأصل العرقي أو الجنسية، و21 قضية متعلقة بالدين، أما المتعلقة بلون البشرة فعددها 37 قضية، وهناك قضيتان مرفوعتان بسبب اختلاف اللغة. وبلغ عدد المتضررين من تلك الجرائم 339 شخصا وعدد المتهمين 397 شخصا، بينهم 323 شخصا من القبارصة اليونانيين.
وتزايدت الجرائم العنصرية منذ عام 2010 وحتى 2019 على الرغم من أن جمهورية قبرص اعتمدت تشريعات مناهضة للتمييز منذ عام 2004 وأنشأت مكتب مفوض الإدارة وحقوق الإنسان (أمين المظالم) الذي تشمل مسؤولياته النظر في ادعاءات التمييز، كما اعتمد الاتحاد الأوروبي في 28 تشرين الثاني/نوفمبر 2008 القرار الإطاري المتعلق بمكافحة العنصرية وكره الأجانب ضمن القانون الجنائي، وهو ما يعد صكا ملزما للدولة القبرصية وتلتزم المفوضية الأروربية بمراقبة تنفيذه على المستوى الوطني. ويقضي في المادة 1 منه بأن "أي شخص يحرض عمدا أو علنا على العنف أو الكراهية ضد مجموعة من الأشخاص أو ضد فرد من مجموعة من الأشخاص الذين تم تحديدهم على أساس العرق أو اللون أو الدين أو النسب أو الأصل القومي أو الإثني يخل بالنظام العام أو يكون مهددًا أو مسيئًا أو مسيئًا بطبيعته، مذنب بارتكاب جريمة، وفي حالة إدانته، يتعرض للسجن لمدة لا تتجاوز 5 سنوات أو غرامة لا تتجاوز عشرة آلاف يورو (12032 دولارا أميركيا) أو كليهما".
تراخٍ في مواجهة العنصرية
تنامت العنصرية بشكل مطرد في الجزيرة منذ أن سجل حزب "إيلام" اليميني المتطرف المناهض للأجانب وصولا غير مسبوق إلى سدة البرلمان القبرصي، وفق إفادة الناشط سياسي من أصل فلسطيني خالد مرتجى، والذي يحمل وزارة التربية والتعليم المسؤولية الأكبر في تنامي العنصرية، فمنذ المرحلة الابتدائية يأخذ المدرسون بترسيخ ثقافة الكراهية ضد "التركي المسلم"، وتوظيف شعارات جعلت شريحة كبيرة من القبارصة يكبرون على كره المسلمين حتى من غير الأتراك. ويستشهد بما حدث خلال حضوره حفلا مدرسيا شارك فيه ابنه، حين أخذت المعلمة القبرصية توجه إهانات علنية لـ"التركي"، ثم تهتف "مسلم مسلم"، وهذا الخلط يتشربه الأطفال وهم يجهلونه.
وتقلل هذه الممارسات من نجاعة مدونة السلوك ضد العنصرية إلى جانب دليل لإدارة الحوادث العنصرية وتسجيلها، التي طبقتها وزارة التعليم والثقافة عام 2015، واعتمدت آلية إبلاغ رسمية في جميع المدارس الحكومية في جميع أنحاء الجزيرة لتسجيل حوادث التمييز التي تحدث في المدرسة والاستجابة لها.
وينسحب الأمر على الخطاب الرسمي الذي يأخذ طابعا عنصريا ضد اللاجئين وفقا لتأكيد كورينا دروسيوتو، منسقة ومستشارة قانونية في منظمة Cyprus Refugee Council (منظمة لدعم اللاجئين في نيقوسيا)، إذ تصاعدت حدة الخطاب الرسمي المعادي للاجئين والمهاجرين في العامين الماضيين، في ظل وجود زيادة في عددهم في السنوات الأخيرة، كما هو الحال في دول الاتحاد الأوروبي الأخرى، قائلة أنه يتم استخدام هذه القضايا لصرف الانتباه عن القضايا الخطيرة الأخرى في البلاد، مثل فضائح الفساد والاقتصاد، كما أن الافتقار لآليات للتصدي للسلوكيات العنصرية وتسهيل تقديم الشكاوى يثني الضحايا عن الشكوى ويعزز هذه الخطابات والممارسات التي وصلت إلى حدّ قتل واختطاف مهاجرات قدمن إلى قبرص من أجل العمل على يد ضابط في الجيش القبرصي، موضحة أن التعامل مع هذه الحالات أظهر ثغرات خطيرة في النظام، إذ لم يُتخذ أي إجراء لمكافحة هذه الجرائم منذ ظهورها، ولايزال من الصعب على غير القبارصة الاقتراب من الشرطة والبحث عن الحماية. وفق دروسيوتو.
خلوراكا ترفض المهاجرين
في 3 ديسمبر/كانون الأول 2020 أصدر وزير الداخلية القبرصي نيكوس نوريس المرسوم 2 لعام 2020 بشأن "الحد من التوطين داخل قرية خلوراكا" التابعة إداريا لمدينة بافوس الواقعة غرب قبرص، والذي دخل حيز التنفيذ في منتصف يناير/ كانون الثاني 2021، ويقضي بأن "يُحظر على المتقدمين للحصول على الحماية الدولية الإقامة داخل الحدود الإدارية لمجتمع خلوراكا". وأبدى رئيس بلدية خلوراكا، نيكولاس لاسيليس، موافقته الشديدة للقرار خلال تصريحات لتلفزيون سيغما القبرصي في 18 يناير الماضي قائلا إن "هذا القرار جاء بعد أن دعا مجتمع خلوراكا مرارا إلى اتخاذ إجراءات ضد المئات من طالبي اللجوء السياسي الذين استقروا في المنطقة ويتسببون في العديد من المشكلات".
هذا المرسوم سبقته تعقيدات واجهها اللاجئون العرب وخصوصا السوريين منهم لرفض مختار القرية التصديق على عقود الإيجار، وأحيانا يقبل المختار تصديقها بينما ترفض الجهات الحكومية ذلك تحت ذريعة وجود قرار بعدم قبول مستندات اللاجئين، وفق توضيح أنس عطالله، وهو صحافي فلسطيني يقيم في خلوراكا، قائلا إن هذه "التعقيدات تضع اللاجئين أمام مشاكل كبيرة لا يجوز أن تكون موجودة في دولة ديمقراطية تابعة للاتحاد الأوروبي". بالإضافة إلى التخوف من تغيير ديمغرافي في ظل وجود 1300 سوري ينحدرون من قرية "تل علوش" في حلب، مقابل 4200 شخص من سكان القرية القبارصة.
قضايا الهجرة واللجوء تصرف الانتباه عن فضائح الفساد والاقتصاد
ويقول المحامي القبرصي من أصل سوري يورغو يورغيو لـ"العربي الجديد"، إن هذا المرسوم يقيد بشكل أساسي حق المتقدمين للحصول على الحماية الدولية في الإقامة في مجتمع خلوراكا، علما بأن النظام القانوني القبرصي يكفل الحقوق والحريات الأساسية ليس فقط للمواطنين بل للأجانب أيضا الذين يقيمون بشكل دائم داخل أراضي جمهورية قبرص. إذ تنص المادة 13 من دستور قبرص على حق كل فرد في التنقل بحرية والعيش بحرية حيثما شاء.
ويعزز هذا القرار من حالة العزلة المفروضة على اللاجئين العرب، إذ اقتصرت العلاقات الاجتماعية على المعارف العرب، في ظل صعوبة الاندماج بالمجتمع مع وجود حاجز اللغة وغياب المؤسسات المعنية بدمج اللاجئين وتعليمهم اللغة، وبالتالي بقي حاجز الانتماء للمجتمع يشكل فوارق جوهرية وضعت اللاجئين والمهاجرين في "غيتو" يعزلهم عن الشعور بالانتماء للمجتمع" حسب ما رصد المحامي العامل في قضايا الهجرة واللجوء.