يدفع قتلى المواجهات بين الجيش السوداني ومليشيا الدعم السريع ثمن الحرب مرتين، إذ يرقدون وسط الأحياء السكنية ومن لم تنهشه الحيوانات تؤدي عوامل التحلل المتسارعة بفعل الطقس إلى تشويه ملامحه وضياع إمكانية التعرف إليه.
- صُدمت الأربعينية مريم إبراهيم لدى مشاهدتها صورة زوجها ضمن جثث عناصر الشرطة السودانية الملقاة في شارع الإنقاذ بمدينة الخرطوم بحري، والمتداولة على موقع فيسبوك.
منذ 25 إبريل/نيسان المنصرم، كانت مريم تنتظر سماع خبر منه أو عنه، بعد انقطاع التواصل، خاصة أن الحرب كانت في أوجها، إذ ظل هاتفه مغلقا، ولم تكن الطرقات آمنة للبحث عنه، و"اضطررت إلى مغادرة منزلي مع أطفالي الثلاثة بصحبة الفارّين من الحرب إلى مدينة ود مدني جنوب الخرطوم"، وتضيف مريم بأسى: "تأكدنا من مقتله لكن جثته لم توارَ الثرى ولم يتم إخطار أسرته رسميا بحسب ما تنص عليه القوانين"، وهو ما يتكرر وتعاني منه أسر طرفي الحرب، إذ إن من لقوا حتفهم لا تزال رفاتهم في العراء ولم تُدفن بحسب مصادر التحقيق، في الوقت الذي تتمنى العائلات عودتهم بأي طريقة، ومن بينهم تسنيم الأمين، والتي كانت تأمل لقاء شقيقها المجند في قيادة الدفاع الجوي بالخرطوم، لكن مع مرور الوقت وفقدان الأمل لجأت إلى البحث على منصة مفقود (مبادرة على الإنترنت لمساعدة الأسر على معرفة مصير أبنائها). وفي 16 مايو/أيار الماضي بلغهم خبر مقتله، لكن "لم تصلهم أي تفاصيل عن مكان دفنه وحتى اليوم لم يتلقوا إخطارا رسميا".
جثث في العراء
تلقى القائمون على منصة مفقود 350 بلاغا بشأن مفقودين في الفترة الممتدة بين 15 إبريل و15 يونيو/حزيران 2023، أكثرها في مدينة الخرطوم، تليها أم درمان ثم الخرطوم بحري، وفق إفادة ثيويبة جلاد، الناطقة باسم المبادرة، في حين دوّنت مبادرة ضحايا الإخفاء القسري، والتي تأسست أثناء الحرب الحالية 445 بلاغا لدى شرطة ود مدني بولاية الجزيرة بشأن اختفاء أشخاص في الفترة بين 15 إبريل وحتى مطلع يوليو/تموز الماضي، بحسب عضو المبادرة المحامي عثمان البصري الصادق آدم، موضحا أنهم لجأوا إلى شرطة ولاية الجزيرة بسبب توقف عمل الشرطة بولاية الخرطوم خلال الفترة الماضية.
يتخلص سودانيون من جثث القتلى بدفنها دون توثيق هوياتهم
وبحسب شهود عيان من أهالي مدينة الخرطوم بحري تحدثوا لـ"العربي الجديد" فإن عشرات الجثث بأزياء عسكرية، لا يعلمون إن كانت لأفراد من الجيش أو من الدعم السريع، توجد على الطريق العام الرابط بين السوق المركزي ببحري، وفي حي شمبات المجاور له. وقال المواطنون الذين وثق معدّ التحقيق شهاداتهم، إن حوالي 15 جثة أخرى توجد على طريق الإنقاذ بين محطة الكرين ومقر شركة سيقا، وجثث أخرى بحي الحلفايا.
ورصد "العربي الجديد" حسابات على موقع فيسبوك تتبع لعناصر الدعم السريع، تتداول صورا لجثث قتلى من الجيش السوداني، وكذلك نشر مواطنون صورا لجثث قالوا إنها تتبع للدعم السريع ملقاة في سوق الكلاكلة في العاصمة، وأخرى بأم درمان. وتعرضت جثث الجنود من الطرفين لتلف بالغ بحسب ما عاينه معد التحقيق، إما بسبب نهشها بواسطة الكلاب الضالة، أو نتيجة حرارة الطقس. ويؤكد السوداني أحمد عبد اللطيف والذي يقطن في حي شمبات بمدينة بحري أن السكان رأوا جثثا لجنود بقيت في أماكنها لأيام، ولم يتمكنوا من الاقتراب منها خوفا من استهدافهم بواسطة قناصة ربما يختبئون في المباني المجاورة وكثيرا ما شاهدوا كلابا تنهش جثث جنود قتلى.
فوضى التعامل مع الجثامين
يحمّل اللواء السابق بالقوات المسلحة السودانية أمين مجذوب، مسؤولية فوضى التعامل مع الجثامين الملقاة في الميدان لمليشيا الدعم السريع التي تفتقر إلى التدريب اللازم وغير الملمة بقواعد الاشتباك العسكري والبروتوكول الإضافي الأول من مبادئ القانون الدولي الإنساني والذي تضمن ثلاث مواد تتعلق بالتعامل مع ضحايا النزاعات المسلحة، منها المادة 33 والتي تنص على ضرورة إجراء "اتفاق حول ترتيبات تتيح لفرق يمكن أن تكون مشتركة من الجانبين، أن تبحث عن الموتى وتحدد هوياتهم وتلتقط جثثهم من مناطق القتال". ولذلك ارتكبت تجاوزات كبيرة من جانبها في موضوع التعامل مع الجثث، فلم يلتزموا بإخطار الجهة التي يتبع لها القتيل، وفي حالة السودان لا بد من وجود مندوب من الطرفين قبل دفن الجثث، لكن لعدم فتح المسارات الإنسانية وعجز الفرق الطبية عن الوصول لمواقع القتلى، تظل الجثث في العراء وبالتالي تضيع الهويات وما يترتب عليها من آثار.
ويدحض عضو المكتب الاستشاري للعلاقات الخارجية للقائد العام لقوات الدعم السريع، إبراهيم مخير، ارتكاب مجنديهم تجاوزات في التعامل مع جثث القتلى، قائلا إن "قوات الدعم السريع عسكرية تتبع النظم الإدارية والقواعد التي تخضع لها أي قوة عسكرية"، وتابع أن القتلى من جانب الدعم السريع لا يتم التخلي عنهم، "لكن بسبب القناصين في مناطق سيطرة القوات المسلحة لم نتمكن من الوصول إلى بعض الجثامين، والمزاعم المتعلقة بوجود جثث لأفراد الدعم السريع تم إهمالها، هو أمر خال من الحقيقة ويعتبر كذبا وافتراءات مكشوفة بغرض تشويه سمعة الدعم السريع، كما أن من يسقطون في يد قوات البرهان نعتبرهم مفقودين حتى يتم التأكد من وجودهم على قيد الحياة". و"جثث القتلى من الطرف الآخر، يتم دفنها التزاما بالنظم العسكرية والمتبعة في قواعد الاشتباك"، بحسب مخير الذي يقول إن وحدة حقوق الإنسان في الدعم السريع هي التي قدمت الأكياس الخاصة للجثامين وأعانت المتطوعين على دفن الجثث من الطرف الآخر في بحري بعد معركة شارع المعونة المشهورة، ثم تحديد مقابرهم بعد تسجيل أسماء القتلى وأرقامهم العسكرية إن وجدت، لكن أكثر الجثث من المستنفرين الذين لا يملكون بطاقات تعريفية ولا يتبعون لوحدات عسكرية نظامية. ويضيف مثالا آخرا على تعاونهم بقوله "منظمة الصليب الأحمر تعمل في المناطق التي نسيطر عليها بحرية تامة وتقوم بمساعدتنا على دفن جثث الطرف الآخر"، على حدّ زعمه، مشيرا إلى أن قيادة الدعم السريع أصدرت توجيها بتأسيس الوكالة الإنسانية للإغاثة والعمليات الإنسانية، وتشمل مهامها أيضا تسهيل وصول المنظمات للأماكن التي يسيطرون عليها، بما في ذلك الصحافيون لاستقصاء الحقائق وتنبيههم إلى القصور وأوجه الضعف إن وجدت لإصلاحها.
ضياع حقوق القتلى
يمكن أن يؤدي عدم توثيق بيانات قتلى القوات المسلحة ودفنهم في أماكن مجهولة إلى ضياع الحقوق المادية التي تنص عليها اللوائح المنظمة لما يجري في حالة الوفاة، بحسب اللواء مجذوب، وبالتالي يجب تحديد هوية الجثث وسبب الوفاة ومكانها والالتزام بإجراءات الدفن، كما يوضح المحامي عادل عبد الغني، المختص بالقانون الجنائي، موضحا أنه في بعض الأحيان لا ترافق الوحدات العسكرية كوادر طبية، ومن المحتمل ترك جثث في مواقع العمليات ليقوم المدنيون بجمعها، ومن المهم في هذه الحالة أن يتأكدوا حسب خبراتهم من إثبات الشخصية، ويوثقوا سبب ومكان ووقت الوفاة. حتى أن القوة المعادية، ملزمة أيضا بإثبات ذلك، في حال سيطرت على موقع ووجدت به جثثاً أو أشلاء بحسب قانون الحرب وهو جانب من أجزاء القانون الدولي العام، والالتزامات الأخلاقية، وإذا صعب التعرف إلى الجثة، لا بد من أخذ عينة منها، حيث يتم بتر الإصبع أو تؤخذ من تحت اللسان أو الأغشية المبطنة للفم وذلك لتحديد البصمة الوراثية لاحقا، على أن تعطى الجثة والعينة رقما متطابقا، للتعرف إلى صاحبها بعد فحص العينة الوراثية في وقت السلم أو تبادل الرفات.
455 بلاغاً لمفقودين منذ 15 إبريل وحتى مطلع يوليو الماضي
وفي 29 إبريل/نيسان الماضي، حددت وزارة الصحة الخطوات التي يجب أن يقوم بها المواطنون قبل دفن الجثث غير المعروفة ونبهت إلى ضرورة ارتداء ملابس واقية وقفازات وكمامات، وفي حال كانت الجثة متعفنة لا بد من رشها بالمبيدات المتوفرة في المنطقة، وترقيم الجثامين وكتابة البيانات في ديباجات (تتضمن المعلومات الشخصية وتاريخ ومكان وسبب الوفاة)، لكن صعوبة الظروف وعدم التعرف إلى الجثث وخوف الناس من انتشار الأوبئة والروائح دفعتهم إلى دفنها وسط الأحياء السكنية فقط دون أي توثيق، وفق إفادات 20 شخصا التقاهم معد التحقيق في جولات ميدانية بالعاصمة.
خطر صحي وبيئي
دفعت الخشية من انتشار الأوبئة والأمراض الأهالي إلى دفن الجثث خوفا على حياتهم كما يوضح المحامي عبد الغني، لافتا إلى أن بعضها نهشتها الكلاب والقطط والفئران وبالتالي قد تتغير العادات الغذائية لهذه الحيوانات والتي قد تستمرئ اللحم البشري ويكون بذلك البشر في الخط الأول لاعتداءاتها، لكن الدكتورة أشواق الطاهر، المتخصصة في الطب الشرعي ومديرة مشرحة المستشفى الأكاديمي الحكومي في الخرطوم، تقول إن بقاء الجثامين في العراء أو دفنها عشوائيا من قبل المواطنين يجعل التعرف إلى هوية الجثث معقدا أو مستحيلا وربما يؤدي إلى عدم الحصول على شهادة الوفاة لإكمال الإجراءات المتعلقة بالحقوق المالية والميراث وغيرها.
ويشكل انتشار جثث جنود طرفي الصراع في الخرطوم دون دفنها تحديا قانونيا وإنسانيا وصحيا، بحسب الدكتور عيسى محمد عبد اللطيف، الأكاديمي المتخصص في علوم البيئة واستدامة التنمية ورئيس سابق للجمعية السودانية لحماية البيئة، موضحا أن وجود جثث في الطريق العام في أي مكان هو امتهان صارخ لكرامة وحقوق الإنسان، عدا عن أنه مسبب للتلوث البيولوجي، وإن بقاءها في العراء يؤدي لانتشار الأوبئة، الناتجة عن البكتيريا والفيروسات والتي قد تسبب أمراضا قاتلة مثل الطاعون.
وبفعل تعرض الجثامين للعوامل البيئية مثل الحرارة المرتفعة والرطوبة والأمطار تتزايد سرعة تحللها وتعفنها، وبالتالي طمس ملامح المتوفى، ما يؤدي إلى اختفاء أدلة سبب الوفاة، كذلك وجودها في العراء ونهش الحيوانات قد يؤديان إلى فقدانها بالكامل وفق الطاهر.
ما سبق يؤكد عليه كبير مفتشي الصحة العامة بوزارة الصحة الاتحادية، عبد الماجد مردس أحمد، قائلا إن بقاء الجثث لبضعة أيام في العراء قد يتسبب في انبعاث غازات سامة أثناء تحللها، ويقر باحتمالات انتقال أمراض عن طريق التلوث العكسي، والذي يحدث بسبب عدم أخذ الاحتياطات الطبية اللازمة عند تعامل الأشخاص مع الجثث، نتيجة عدم إلمامهم بأساليب الوقاية والتعامل مع الجثمان، مثل عدم التعرّض للسوائل الجسدية والدم، وارتداء الحذاء الثقيل للحماية من الإصابات الناجمة عن اختراق أي جسم ملوث للجسد عبر الحذاء، وغسل وتعقيم جميع المعدات والملابس ووسائل النقل المستخدمة لنقل الجثث.