في الثامن من يوليو/ تموز الماضي تمكنت قوات النظام السوري من قطع طريق الكاستيلو؛ المنفذ الوحيد لشرقي مدينة حلب الذي تسيطر عليه قوات المعارضة، نحو الريف الشمالي للمدينة وتركيا، ما شكّل صدمة لدى أوساط المعارضة، ولدى سكان المدينة بشكل خاص، إذ يعيش في الجزء الشرقي من مدينة حلب نحو 325 ألف شخص، يتوزعون على 34 حيّاً، تعرف منذ ما قبل الثورة بالأحياء الشرقية، والتي تتسم بالفقر، بينما تسيطر قوات النظام على الجزء الغربي من المدينة الذي يضم الأحياء الميسورة.
وبعد قطع طريق الكاستيلو ناريا من جانب قوات النظام ومن ثم تمكنها من الوصول إلى الطريق وقطعه بشكل محكم، اختفى كثير من السلع من أسواق المدينة، وارتفعت أسعار القليل الذي يعرض منها بشكل كبير وصل إلى أربعة أضعاف سعرها السابق، وهو ما رده الناشطون العاملون في مجال الإغاثة إلى عملية الاحتكار التي "يلجأ إليها التجار في مثل هذه الظروف، إذ يحجبون بضائعهم ويعرضون القليل منها بأسعار مضاعفة".
"العربي الجديد" ينقل في هذا التحقيق الميداني جانباً من معاناة أهل حلب، حاضرة الشمال السوري، والعاصمة الاقتصادية الأولى لسورية.
تضاعف أسعار المواد الغذائية
يبحث الثلاثيني قتيبة سعد الدين المقيم في مدينة حلب المحاصرة، عن علب حليب لأطفاله، بعد اختفاء هذه السلعة الاستراتيجة، وارتفاع سعر ما تبقى منها من 3700 ليرة سورية إلى 8 آلاف ليرة سورية، للعلبة الواحدة، (الدولار الأميركي يساوي نحو 500 ليرة سورية).
بحسب سعد الدين، فإن اختفاء المواد الغذائية وارتفاع أسعار ما تبقى منها شمل مختلف أنواع السلع، إذ ارتفع سعر كيلو البطاطا، والتي تعتبر أبرز وجبات الأسر السورية في ظل الحالة الاقتصادية المتدهورة، أكثر من خمسة أضعاف، لتصل الى نحو 800 ليرة، صعوداً من 125 ليرة للكيلو الواحد، بينما تغيب الكثير من الخضروات والفواكه عن الأسواق الحلبية مثل الكوسا والخس والخيار والتفاح والبرتقال، وهو ما دعا المجلس المحلي في مدينة حلب (مشكل في أحياء المدينة المحررة من النظام)، في 13 يوليو/ تموز الماضي، إلى إصدار تعميم يمنع التجار في الأحياء الخاضعة لسيطرة قوات المعارضة من احتكار المواد الغذائية والمحروقات، إذ أصدر المجلس نشرة أسعار "ملزمة" لكل التجار والباعة، محذراً من التلاعب بها أو الاحتكار للمواد الغذائية. وقال نائب رئيس المجلس المحلي، زكريا أمينو، "إنه في حال ضبط مواد أساسية مخزنة مخبئة مثال (سكر - سمنة - غاز - بيض - طحين) سوف يتم توقيف صاحبها فوراً وإحالته إلى القضاء ومصادرة وبيع هذه المواد للمواطنين".
وحدد التعميم سعر الأمبير الكهربائي الواحد بـ25 ليرة سورية لكل ساعة تشغيل، ولا يجوز أن تتجاوز ساعات التشغيل اليومي 6 ساعات تشغيل فعلية ولا تقل عن 4 ساعات فعلية في اليوم الواحد.
وعلى الرغم من أن الفصائل الموجودة في حلب، وعلى رأسها "فاستقم كما أمرت، ونور الدين الزنكي، والجبهة الشامية"، حذرت من التلاعب والاحتكار بالمواد التموينية إلا أن المواد الأساسية غير متوفرة في الأسواق الحلبية المحاصرة، وهو ما يرجعه الناشط الإعلامي ماجد عبد النور الموجود في مدينة حلب إلى أن "المواد الغذائية المخزنة لا تكفي أكثر من شهر واحد".
حل مشكلة الخبز ونقص حاد في الدواء
يروي الناشط الميداني والإعلامي شهاب مرجان أن الأيام الأولى للحصار شهدت صدمة وانخفاضاً في المعنويات بين أهالي الأحياء المحاصرة، بعد خلو الأسواق من المواد الأساسية، إذ جهد المدنيون في تأمين قوت يومهم وسط قلق من اشتداد الحصار وفقدان المواد الأساسية.
يضيف مرجان في حديثه لـ"العربي الجديد" أنه بعد ثلاثة أيام فقط من فرض الحصار اختفت المواد الأساسية من الأسواق، وارتفعت أسعار القليل المعروض منها أربع مرات بسبب عمليات الاحتكار من جانب التجار.
"لكن تم حل مشكلة الخبز في الأيام الخمسة الأولى، بعد إيجاد مراكز محلية لتوزيع الخبز والاقتصار على بيع الحاجة اليومية للسكان من الخبز دون السماح بشراء كميات كبيرة تجنبا لحدوث أزمات"، كما يقول مرجان، والذي عاد وأشار إلى النقص الحاد في الأدوية، وتدهور حالة المراكز الصحية بسبب استهدافها المستمر من جانب قوات النظام والطيران الروسي.
ولفت مرجان إلى أنه بعد نحو الأسبوعين من فرض الحصار بدأ المزاج العام يتغير، خاصة مع بروز أمل بفك الحصار مع بدء معركة حلب من جانب قوات المعارضة. وأوضح أنه وكثير من الناشطين يحاولون مساعدة الناس وحثهم على زراعة المنتجات الزراعية داخل المنازل، متابعا "أنا شخصيا عملت مزرعة صغيرة في بيتي لتشجيع الناس على إيجاد بدائل في حال طال الحصار".
وأضاف أن المدينة شهدت مظاهرات كبيرة، بعد اندلاع العمليات العسكرية قبل أيام تحت شعار الغضب لحلب، مشيرا إلى أن هذه المظاهرات امتدت إلى حلب الغربية حيث يسود شعور لدى مجمل الأهالي بقرب خلاص المدينة من سيطرة قوات النظام. وقال لإن كثيرا من الناس وخاصة الأطفال يشاركون في عمليات حرق لإطارات السيارات في أنحاء المدينة على أمل أن يسهم ذلك في حجب الرؤيا أمام الطيران الحربي التابع للنظام وروسيا، والذي يجوب سماء المدينة ليل نهار، مشيرا إلى أنه ما بين 5 إلى 6 طائرات تحلق بشكل دائم في سماء المدينة وتلقي عليها صواريخ إذا كانت الطائرات روسية أو براميل متفجرة من جانب طائرات النظام، وتبلغ معدلات الغارات الجوية اليومية ما بين 10 الى 15 غارة جوية، في الأيام الأخيرة.
وأكد مرجان أنه لم يفتح حتى الآن أي معبر ولم يخرج أي شخص من المدينة، واصفا ادعاءات النظام وروسيا بهذا الصدد بأنها دعائية وليس لها رصيد على أرض الواقع. ولفت إلى أن قوات النظام وشبيحته يسرقون منازل مشروع سكن الإنشاءات إلى جانب مشروع 1070 في حي الحمدانية الخاضع لسيطرة قوات النظام بعد نزوح أصحابها، مشيرا إلى أن صفحات موالية اتهمت جيش النظام والشبيحة بإطلاق النار العشوائي في حي الحمدانية لإخافة السكان وإخراجهم من منازلهم بهدف سرقتها.
نقص المحروقات
يذكر الناشط عبد النور أنه مع بدء معركة المعارضة الأخيرة بات الحلبيون لا ينامون من شدة التشوق لفك الحصار، إذ إن قلوبهم معلقة بالتطورات العسكرية على تخوم المدينة. وأشار إلى أن الحياة بشكل عام تسير بصورة طبيعية في المدينة، لكن لا يوجد أعمال؛ إذ توقفت أغلب الورش الصناعية الصغيرة بسبب عدم توفر المحروقات. وشدد على أن معنويات السكان مرتفعة جدا بعد أن بات مقاتلو المعارضة على بعد كيلومتر واحد تقريباً من فك الحصار.
وأكد بدوره أن الممرات الآمنة التي جرى الحديث عنها كاذبة ولم يخرج أحد، ولو خرجوا لكان مصيرهم الاعتقال والإهانة وربما الاختفاء والقتل، حسب تعبيره. وما فاقم الأزمة وسرّع من ظهورها بعد أيام قليلة أن الجزء الشرقي من المدينة كان يعاني أصلاً من أوضاع إنسانية ومعيشية صعبة؛ بسبب الافتقار إلى جميع مقومات الحياة من ماء وكهرباء ومواد غذائية، إذ توقف دخول المواد الغذائية منذ نحو ثلاثة أشهر، لأن قوات النظام والمليشيات المتعاونة معه، بما فيها المليشيات الكردية في حي الشيخ مقصود، كانت منذ ذلك الوقت تسيطر على الطريق نارياً، وتجعل التنقل عليه يحمل مخاطرة كبيرة، ما حد من حركة المواطنين والشاحنات التي تنقل البضائع على الطريق، وفقا لما ذكره الناشط ماجد عبدالنور.
أسواق فارغة وورش ومعامل مدمرة
وفقا لما وثقه الناشط عبدالنور فإن الطائرات الحربية تعمد إلى قصف معظم المعامل وحتى ورش العمل الصغيرة في المدينة والأسواق، ما أخرج كثيرا من المواطنين من سوق العمل، وجعلهم يحاولون القيام بأعمال هامشية لا تدر دخلا يكفي لتأمين الحاجات الأساسية، من بين هؤلاء أحمد المودي الذي لديه محل لبيع الخضروات في حي بستان القصر، يقول المودي "إنه وجميع رفاقه البائعين يجلسون منذ عدة أيام بلا عمل حيث تكاد الأسواق تخلو من المشترين بسبب ارتفاع الأسعار، والذي عزاه إلى الحصار أولاً وإلى حجب المواد الأساسية من جانب كبار التجار ثانيا، إذ يعمد هؤلاء إلى تخزين تلك المواد على أمل تحقيق أرباح مضاعفة إذا طالت أيام الحصار وفقدت المواد تماماً من الأسواق".
ويتفق المُعلم حسن النجار مع المودي في أن الاحتكار سبب أساسي لفقدان المواد الأساسية بهذه السرعة، على الرغم من حجم التخزين الكبير في المستودعات حسب قوله. وأضاف "إذا كان هذا هو الحال في الأيام الأولى من الحصار فكيف سيكون بعد أشهر وسنوات كما حصل في مناطق ومدن سورية أخرى، في حال استمر الأمر".
وأضاف أن معظم السكان ما زالوا حتى الآن يعتمدون على المواد الإغاثية التي وزعت عليهم قبل الحصار، مشيراً إلى أن الجمعيات الإغاثية لم توزّع أية مواد غذائية على المواطنين منذ شهرين. قائلاً "غذاء الفقراء الرئيسي في الأسواق هو البقلة والبقدونس، رغم أنها تأتي للأسواق أحياناً سيارات تحمل الخضار من البساتين المزروعة داخل المدينة المحاصرة، لكن الازدحام الشديد عليها يجعلها بعيدة عن تناول معظم السكان".
وحول توفر مادة الخبز، يقول النجار إن الخبز يوزع في بعض المناطق عن طريق المكتب الإغاثي بمعدل ربطة واحدة كل يومين، وتضم الربطة 6 أرغفة، بغض النظر عن عدد أفراد العائلة.
ويلفت أبو محمود؛ الموظف المتقاعد، إلى أن المدينة تعيش ضعفاً في الحركة والتنقل بسبب فقدان المحروقات، وهو ما ينعكس على توفر المواد الأساسية وسرعة توزيعها ونقلها، فضلا عن الحد من تحركات الأفراد. وقال لـ"العربي الجديد": "هذا الواقع دفع الأهالي إلى الاعتماد على أقدامهم أو على الدراجات الهوائية كبديل للمواصلات العامة؛ بسبب فقدان المحروقات، بما في ذلك الغاز المنزلي، ما جعل الأهالي يعتمدون على الحطب والوسائل البدائية للطبخ وإعداد الطعام". وأعرب أبو محمود عن أمله في أن تتمكن قوات المعارضة من فك الحصار عن المدنيين خلال وقت قصير حتى لا تسوء الأحوال أكثر من هذا.