يصف الباحث الاقتصادي جاسم عجاقة، الأزمة التي يمر بها اقتصاد لبنان بـ"الوجودية" نظرا لتأثيرها في القطاع المصرفي والنقدي والمالي، بطريقةٍ غير مسبوقةٍ إذا ما استمرّ الوضع على ما هو عليه، وهذا أمر خطر جدًا، قائلا إنّ "استمرار الأزمة لأسبوعَيْن أو ثلاثة لن يمرّ مرور الكرام من دون تداعيات مؤذية يتوجب على الدولة أخذ قرارات لتجنّبها وإلا مصيرنا المجهول بسبب الخسائر الاقتصادية اليومية والتي تصل وفق تقديرات متباينة في حدها الأقصى إلى 214 مليون دولار منها 14.5% تذهب إلى خزينة الدولة كضرائب على النشاط الاقتصادي. وهذا يعني أنّ الخزينة تخسر يوميًا ما يُقارب 30 مليون دولار أميركي".
الخسائر التي تلحَق بالاقتصاد والمصارف، يتصدر القطاع الخاص لائحة المتضررين بها، بالإضافة إلى معاناة التجار، والصناعيين والمزارعين وفق ما يوضحه عضو لجنة الرقابة على المصارف سابقًا، ومدير عام بنك لبنان والمهجر (تأسس عام 1951) الدكتور أمين عواد، قائلا لـ"العربي الجديد": "على سبيل المثال معظم الفواتير لا يمكن تحصيلها، شركات الهواتف التي تحصّل فواتيرها مباشرة من المصارف توقفت عن ذلك نتيجة الإقفال، وكذلك البضائع على المرفأ لا يمكن تنظيم شيكاتها نتيجة إقفال مصرف لبنان، وغيرها من الخسائر".
أنواع الخسائر
يشير وزير الاقتصاد اللبناني السّابق والشريك المؤسِّس في "سيدروس بنك" (تأسس عام 2015) رائد خوري، إلى أنّ "عمل المصرف يتأثر بسبب الحراك، إذ يتدنّى مدخوله ويخفّ عمله وأرباحه، في المقابل، عليه أن يدفع رواتب الموظفين وفوائد الناس". لافتًا، إلى أنّ "مستوى السيولة عند معظم المصارف متدنٍ ويصل إلى معدّل 5% فقط، بينما كانت السيولة تصل سابقًا إلى 20 و25%، من هنا تصبح المصارف أمام مشكلةٍ في حال أتى طلب من العملاء على سحب الودائع أو الأموال من المصارف فور فتح الأخيرة أبوابها".
في المقابل، يعتبر عجاقة، أنّه "مما لا شكّ فيه أن الأزمة الحالية التي تعصف بلبنان أثّرت على مداخيل المصارف من ناحية خسارتها لبعض العمولات نتيجة الإقفال وتوقّف النشاط الاقتصادي. هذا الواقع لا يؤثّر بأي شكل من الأشكال على الودائع المصرفية لأننا نعيش حالة من الجمود مع غياب لأي استنزاف للودائع، وتوقّف عمليات السحب نتيجة الإقفال".
عجاقة يرى، أنّ "الحديث عن هجمة الناس لسحب أموالها من المصارف عند إعادة فتحها، هو حديثٌ غير دقيقٍ وغير منطقيٍّ! إذ ماذا سيحدث لهذه الأموال في حال سُحِبَت بعد هدوء الأحوال وعودة الوضع الى طبيعته؟!"، ويضيف، "هناك ملياران ونصف المليار دولار أميركي داخل المنازل"، كما أعلن رئيس لجنة الرقابة على المصارف سمير حمّود في سبتمبر/أيلول الماضي عبر تصريحات صحافية. ووضع مبالغ كبيرة في المنازل يشكّل العديد من المخاطر، ولا سيّما الأمنية، كما أنّ ساحب الأموال الطائلة سيخسر الفوائد العالية التي يستفيد منها في ظلّ وجودها في المصارف".
وتابع، "بالطبع قد يلجأ بعض المتموّلين الكبار وأصحاب رؤوس الأموال إلى سحبِ أموالهم بعد إعادة فتح المصارف، لكن الأكيد أن الأسباب مُغايرة لعامل الثقة. فقد يكون هذا البعض مُتخوّف من المحاسبة إذا كانت أموالهم مشبوهة أو مصادرها غير معروفة، خصوصًا أنّ الأجواء السائدة حاليًا هي نحو محاسبة الفاسدين وفي ظلّ المطالب الشعبية التي تنادي بتفعيل عمل القضاء بهذا الشأن، وفتح تحقيقات".
"لذا نرى أن لا مخاوف من سحب الودائع، فبالحدّ الأقصى يمكن أن يلجأ المودعون إلى سحب ثلاثة أو أربعة مليارات دولار وهذا لن يؤثّر على المصارف التي تبلغ ودائعها 178 مليار دولار أميركي. مستندًا في تأكيده إلى حوادث حصلت سابقًا مثل استقالة رئيس الحكومة سعد الحريري من الرياض بتاريخ 4 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، أو عدوان إسرائيل على لبنان في 12 يوليو/تموز 2006، وفي أسوأ الأحوال لم يُسحب أكثر من 5 إلى 6 مليارات دولار". على حدّ تأكيد عجاقة الذي يعتبر، أنّ "أهمّ ما في قطاعنا المصرفي، أنّه مبنيّ على حريّة تنقّل رؤوس الأموال، أي يمكن للعميل أو الزبون أن يسحب أمواله ساعة يريد".
ويرى الوزير السّابق رائد خوري، أنّ "العلاقة بين المصرف والعميل أساسها الثقة، وفي حال أصبحت متدنيّة، يمكن للقطاع أن ينهار، من هنا ضرورة المحافظة على هذه الثقة، خصوصًا أنّها تؤدي لانخفاض سندات الخزينة، التي تراجعت خلال الأسبوع الماضي بنحو 4%".
وفي هذا السّياق، سأل "العربي الجديد" عشرة مواطنين حاولوا سحب الأموال من الصراف الآلي، فكانت النتائج مختلفة بين من تمكّن من سحب ألف دولار كحدٍّ أقصى في اليوم الواحد من صراف آلي في منطقة الجديدة (قضاء المتن)، وآخر لم يتمكن من سحب أكثر من 300 ألف ليرة لبنانية (200 دولار أميركي) في اليوم الواحد من صراف آلي موجود في زحلة (البقاع الأوسط)، ومواطن تمكّن من سحب 900 ألف ليرة لبنانية (600 دولار أميركي) من صرّاف آلي في العاصمة، فيما اعتمدت بعض المصارف سقف المليون ليرة لبنانية في اليوم الواحد (حوالي 663 دولاراً أميركياً) ولم تملأ صرافها الآلي بالدولار.
وتدأب جمعية المصارف في لبنان، على إصدار تعميمٍ يوميّ منذ بدء التحركات الشعبيّة بتاريخ 17 أكتوبر/تشرين الأوّل الجاري، تستند فيه إلى الأوضاع العامة في البلاد قبل أن تتخذ قرارها بالإقفال الملزم للمصارف اللبنانية كافة وعددها 65 مصرفًا.
وبحسب مصدر من الجمعية فضّل عدم ذكر اسمه للموافقة على التصريح، فإنّ المصارف مستمرّة في الإقفال يوم الأربعاء 30 أكتوبر ويمتدّ الأمر إلى حين تبلور المشهد في الشارع اللبناني وعلى السّاحة السياسيّة، وذلك بعد دخول الاحتجاجات التي بدأت مع إعلان حكومة رئيس الوزراء سعد الحريري نيتها فرض ضرائب جديدة، ومنها على مكالمات التطبيقات الذكية مثل تطبيق "واتساب"، "فيسبوك كول"، "فيس تايم"، "فايبر"، وتلك المماثلة التي تستخدم نظام التخابر عبر الإنترنت VOIP - voice over IP، يومها الثالث عشر. مع تشديدها، على إبقاء المصارف أجهزة الصراف الآلي في خدمة الزبائن والعملاء، لعمليات السحب والإيداع النقدي كافة.
ويؤكد مدير عام مصرف فرنسَبنك (تأسس عام 1921) نديم القصار، أنّ "المصارف تبذل جهدًا كبيرًا كي تؤمِّن حاجات عملائها الضرورية من السيولة، ولا سيّما عبر أجهزة الصرف الآلي المُنتشرة في مختلف المناطق اللبنانية التي نحرص على تعبئتها بالأموال النقدية".
ويوضح قصّار لـ"العربي الجديد"، أنّ "إقفال المصارف مستمرٌّ لأسبابٍ احترازيّة وضمان أمن الزبائن والموظفين والفروع".
سياسة البنك المركزي
الخبير الاقتصادي والأكاديمي إيلي يشوعي، يؤكِّد ضرورة، سقوط سياسة البنك المركزي التي قامت منذ عام 1993 على سياسة المكافآت الريعية ومحاباة أصحاب المال وعاقبت صاحب الإقدام أي المستثمر والشباب، وقلَّصت فرص العمل، كما هجَّرت هؤلاء الشباب قسرًا لأسبابٍ اقتصاديّة وراكمت الديون على خزينة الدولة، بالإضافة إلى أنها قلّصت حجم الاقتصاد وقضت على الطبقة الوسطى، لذلك أرفع شعار "يسقط حكم المصرف" منذ 26 سنة وما زلت.
واعتبر يشوعي في إفادته لـ"العربي الجديد"، أنّ سياسة البنك المركزي، انكماشية وريعية، وانتقائية تدخّلية وتفضّل قطاعًا على آخر، وتعرِّض سلامة الودائع للخطر مع مدين غير مليء، مشيرًا، إلى أنّه لو ضرب حاكم مصرف لبنان رياض سلامة يده على الطاولة وعمد إلى تقنين المال للسياسيين لكان انخفض الهدر والفساد.
في المقابل، يستغرب مدير عام بنك لبنان والمهجر الدكتور أمين عواد في حديثه إلى "العربي الجديد"، رفع المعتصمين شعار "سقوط حكم المصرف"، قائلا :"هؤلاء الذين نالوا قروضًا من المصارف سواء لشراء سيارة أو منزل أو قرض شخصي أو جامعي وما إلى هنالك" على حدِّ قوله.
ويتابع عواد، أتفهّم غضب الناس من ارتفاع الفوائد، ولكن المشاكل السياسيّة في البلد والمخاوف الناتجة عنها هي التي أدّت إلى اتّخاذ اجراءات من هذا النوع، خصوصًا أنّ من كان يرسل الأموال إلى لبنان ويضعها في البنوك لم يعد يفعل ذلك وبات يرسلها إلى مصارف أجنبيّة، ما دفع بمصرف لبنان إلى رفع الفوائد لحثّ أصحاب المال على وضع أموالهم في الداخل، ولا سيّما أنّ رأسمال البنك ليس بكبيرٍ وعليه أن يستقطب الودائع كي يمنح القروض، وبالتالي بمجرّد حلّ المشاكل السياسية، تنخفض الفوائد تدريجيًّا، وتتقلص نسبها على التسليفات.