في مراهقتي كنت أستمع إلى عبد الحليم حافظ، معتقدا أنّه واحد من المطربين الأحياء. لم يخطر لي أنّه رحل عن الدنيا. ثم عرفت أنّه مات قبل أن أولد بسبع سنوات، أي قبل مراهقتي بعشرين عاما.
شعرت أنّ في الأمر شيئا خاطئا. فهو كان "حاضرا" في يومياتي أكثر من غيره من الأحياء. كان صوته آسرا، والكلمات والألحان تخاطب مراهقا في 13 و14 من عمره تماما، كما تخاطب قصائد المتنبّي من يقرؤها بعد ألف عام من موته.
بالطبع كانت واحدة من "الظنون" التي، وأنا أصحّحها، مثل أيّ مراهق، أعدّل في معلومات وأزيد على أخرى وأنقص من غيرها. مثل أيّ داخل إلى عالم "الراشدين" ويلملم، دون أن يقصد، المعلومات الضرورية ليكون ابن زمنه.
رغم ذلك لم أقتنع أنّه "مات". فهو، حين أستمع إليه، أتخيّل صورة شاب، صورته هو، الذي حين مات كان شابا. في صوره الكثيرة اليوم على غوغل، نكاد لا نجد واحدة لرجل فوق الأربعين، والدليل في هذا الرابط على يوتيوب. رغم أنّه عاش 48 عاما (من 1929 إلى 1977) بحسب هذا الرابط على ويكيبيديا.
صوره كلّها للشاب الذي كانه. قلّما تجد صورة لرجل على أبواب الكهولة أو الشيخوخة. رغم أنّه خضع لأكثر من ستّين عملية جراحية، وأمضى 30 عاما مريضا.
حتّى أغنياته، وإن يجلسها النقّاد إلى جانب أغنيات "العمالقة"، لكنّها "نِغشَة" كما يُقال باللهجة المصرية. ليس فيها "عبوس" الجدّيّة، كما في أغنيات أمّ كلثوم وحياتها. بلا عنجهية، مثل التي نجدها في بعض أداء فيروز. ولا تجد في صوته رفعة صوت محمد عبد الوهاب وترفّعه، أو تعالي صوت فريد الأطرش وتشاوفه.
في صوت عبد الحليم ألفة وحيوية، كما لو أنّه مطرب شعبيّ.. وهو ليس كذلك. كما لو أنّه يريد أن يكون قريبا من المستمع. لا يقول، بين أوتاره، إنّه مطرب كبير يستحقّ الإجلال. بل كأنّي به دوما مغنّيًا شابا تحت الاختبار. هو الذي قضى عشر سنوات تقريبا، بين 1943 و1952، يبحث عن فرصة. وفي سنة 1953 صار نجما. 25 عاما من النجومية ثم رحل. وهي سنوات قليلة إذا عرفنا أنّ عبد الوهاب شهد 60 عاما من الشهرة، وفريد الأطرش 40، وفيروز 65 عاما من الشهرة حتّى اليوم، وصباح 70 وأكثر..
25 عاما من النجومية فقط. ربّما هو رقم من أسباب "فيضان" شهرته إلى يومنا هذا. فمجايلوه ما زال بعضهم على قيد الحياة. وأغنياته يؤدّيها من هم في سنّ المراهقة اليوم، ومغنّون شباب. أي من ولدوا بعد 20 عاما من وفاته.
والداخل إلى حانات بيروتيّة للشباب، قد يسمع أغنيات لا يعرف أنّ مؤدّيها مات قبل 37 عاما. منها "أنا كلّ ما قول التوبة" التي أدّتها أصالة بإعادة توزيع سريعة، كما يرينا هذا الرابط على Youtube.
و"على قدّ الشوق" مثلا، بصوته، مع إعادة توزيع، تبدو مسجّلة في 2014 وليس في 1954. أغنية عمرها 60 عاما بالتمام والكمال، يستمع إليها الملايين على Youtube، كما في هذا الرابط.
لا أتصوّر أن عبد الحليم حافظ قد مات. هو الشاب أبدا، صوتا وكلاما ولحنا وسيرة، كما تقول أغنيته "نبتدي منين الحكاية"، وفيها الجملة الشهيرة: "ونخلّي الحبّ الحبّ شبااااب"، على هذا الرابط.
وربما أتظاهر بأنّني ما زلت مراهقا. أنهي العشرينات وأدخل في ثلاثينياتي، أستمع إليه كما حين كان عمري 13، حين كان غرام المراهقين، قبل Facebook وTwitter يعني العذاب، ويعني هذه الأغنية: "أهواك، واتمنّى لو أنساك".