"العربي الجديد" في 8 سنوات: شمس الصحافة لا تغيب
الانطباع الأول بين يديّ الذكرى الثامنة لانطلاق "العربي الجديد" أن هذه السنوات مضت سريعا من جهة، وكانت، في الوقت ذاته ومن جهة ثانية، حافلةً بأحداث جسام، وجياشة بالانفعالات السياسية. شاءت الظروف أن ينطلق هذا الموقع الإلكتروني (سبق صدور الصحيفة) عشية أول أزمة خليجية، وإبّان موجة الربيع العربي، وها هو يحتفل بالذكرى الثامنة له على وقع الغزو الروسي المتواصل لأوكرانيا. وبين الحدثين تفاقمت الأزمة الخليجية، ثم وجدت طريقا لها إلى الحل، وقُطعت العلاقات بين الجزائر والمغرب، واضمحلّ دور القمم وجامعة الدول العربية، واندلعت موجة التطبيع الشامل في تطبيق إقليمي لصفقة دونالد ترامب وبنيامين نتنياهو التي عرفت إعلاميا بصفقة القرن، وكان يُراد بها تكريس الاحتلال الصهيوني وشرعنته، ولقيت رفضا من الطرف المعني (الفلسطيني) والطرف العربي المتأثر أولاً بها (الأردني)، ما ساهم، مع فشل ترامب في الانتخابات الرئاسية، في طيّ صفحة هذه الصفقة وكأنها لم تكن.
أحداثٌ وفيرةٌ، ولا يرغب هذا المقال هنا بحصرها وأرشفتها، بل بمحاولة استشفاف تفاعل هذه الصحيفة معها، ومع ما نجم عنها من تحوّلات. وقد نجحت الصحيفة للحق في الموازنة بين تعبيرها عن حراك الشعوب والإصغاء إلى نبضه، ومواكبته بغير تضخيم أو الوقوع تحت تأثير شعارات عاطفية، وبين الحرص على إظهار آراء السلطات هنا وهناك. وفي الحالتين، كان تحرّي المعلومة والتدقيق في الأخبار، بما في ذلك صياغتها، رائد هذه الصحيفة التي لم تنشغل بتمجيد الذات المهنية أو إطلاق ألقاب على نفسها، أو تحديد مرتبة لها في سباق التنافس الإعلامي. كان الأمر وما زال متروكا لجمهرة القراء، وللمختصّين في الميديا ووسائط التواصل والباحثين في مراكز الدراسات المتخصّصة، الإعلامية والسياسية، لتقييم أداء هذه الصحيفة، واكتشاف الموقع الذي احتلته والدور الإعلامي الذي نهضت به في فترة قصيرة نسبيا.
يندر، في زماننا هذا، أن تفسح مطبوعة ومنبر في عالمنا العربي لحيز واسع للثقافة، مثلما يفعل موقع العربي الجديد
لم تكن ظروف الإصدار الأول لـ"العربي الجديد" ذات طابع سياسي فحسب، بل هي ظروف متشابكة ألقت بظلالها على مهنة الإعلام والصناعة الصحافية. لقد تميزت تلك الفترة بانحسار دور الإعلام "التقليدي" من صحافة ورقية وتلفزة وإذاعة مسموعة، وانعكس ذلك، بعض الشيء، على وكالات الأنباء التي تزوّد هذا الإعلام بالأنباء والتقارير والصور الصحافية، مع تقدّم مطرد لوسائط الاتصال الإلكترونية ومنصّات التواصل الاجتماعي وصحافة المواطن، ما دفع كثيرين إلى نعي صناعة الصحافة ومعاينة ما اعتبروه نزولها عن عرشها إلى غير رجعة. وهو ما مثّل تحديّاً أمام الصحيفة الوليدة آنذاك التي قصدت "طريق الحجّ الإعلامي والناس راجعة منه"، وفق مثل شعبي عربي سائر. والحال أن "العربي الجديد" أثبتت أن طريق الإيمان بالصحافة والكلمة تظل مفتوحة وسالكة أمام المؤمنين بدور الإعلام بالتبصير بالحقائق والوقائع وباحترام حق الجمهور بالمعرفة، والتخفّف من الانحيازات في صوغ الأخبار، وبتوسيع دائرة المتابعة والوقوف على آراء صانعي الأخبار والقصص الصحافية بتوازن وعدالة، مع التمسّك بمنظورٍ تحرّري، يستند لاحترام حقوق الشعوب والمجتمعات والجماعات السياسية والاجتماعية والأفراد، ونقد مختلف مظاهر التسلط والطغيان والافتئات على الكرامة البشرية من أي مصدر أتى وتحت أي لبوس كان. وذلك في زمنٍ تحولت فيه الحقيقة إلى ضحية، ليس بفعل الحروب والصراعات فقط، بل أيضا نتيجة هندسة الأخبار المضللة والزائفة التي تنشط بها غرف مظلمة وذباب إلكتروني مختلف الحجوم.
وبهذا، فقد أعاد صدور هذه الصحيفة الأمل بأن دور الصحافة العربية لم ينته، وشمسها لم تغب، على الرغم من التراجع الكبير الذي منيت به هذه المهنة بفعل عوامل متراكبة، منها سطوة وسائط الاتصال التقنية والصعوبات الاقتصادية، بما فيها ضعف الإنفاق على الإعلان (الإشهار)، وتشديد الحملات هنا وهناك على الآراء المتنوعة، وعلى مصادر الأخبار المستقلة. وقد نجحت "العربي الجديد" في أن تستكمل أفضل تقاليد الصحافة العربية المتقدّمة التي عرفها الجمهور العربي في المشرق والمغرب العربيين منذ خمسينيات القرن الماضي، وذلك بالحرص على الرصانة والموثوقية والتقيد بهما والتعفّف عن الشخصنة والنأي التام عن آفات التهويل والتنابز بالشعارات، وتسويق الذات مع إفساح المجال لمروحةٍ واسعةٍ من الحساسيات الفكرية وأصحاب الرأي ممن ينتمون لاتجاهات شتى، ويجمعهم التمرّس بالكتابة التي تُعنى بالتوثيق والمعلومة والاحتكام إلى الوقائع، والإيمان بحق الشعوب في النهضة والتحرّر والتقدم، مع إتاحة الفرصة أمام كوكبة من الكتّاب الجدد من ذوي الموهبة من الملمّين بناصية الكتابة الصحافية في حقول السياسة والثقافة والاقتصاد وسواها.
حرص على الرصانة والموثوقية والتقيد بهما والتعفف عن الشخصنة والنأي التام عن آفات التهويل والتنابز بالشعارات
وقد ساهم بأثرٍ بيّن رفد المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات الصحيفة بتقارير موثقةٍ عن أهم التطورات والتحديات التي يشهدها العالم العربي والعالم، تتسم، إلى جانب الموضوعية وشمولية النظرة والربط بين الوقائع والرؤية التحليلية المتسقة، بلمسةٍ صحافيةٍ وصياغة تنبض بالحيوية، بما يجعلها مادة صحافية ثرية وجذّابة لأصحاب الفضول المعرفي وللمهتمين والدارسين وصانعي القرارات. وبموازاة ذلك، عُنيت الصحيفة بنشر النتائج المفصلة للمؤشّر العربي، السنوي، (استطلاعات الرأي التي يجريها المركز دوريا) مع التعليق عليها وتحليلها، وبما جعل الصحيفة، مثل المركز، مصدرا أساسيا للمعرفة ومرجعا لاستشفاف توجّهات الجمهور وانعكاس الأحداث والتطورات على ردات فعله وعلى تشكيل آرائه.
بموازاة ما تقدّم وبالاتصال معه، فقد تميز موقع "العربي الجديد"، خلال السنوات الثماني من مسيرته، بأنه يجمع بين ما هو سياسي وما هو معرفي وما هو ثقافي، إذ يندر، في زماننا هذا، أن تفسح مطبوعة ومنبر في عالمنا العربي لحيز واسع للثقافة، مثلما يفعل هذا الموقع الذي ينشر يوميا حشدا من المواد الثقافية والإبداعية الحيوية التي تتيح للقارئ التعرّف إلى ثمرات الثقافة العربية الحديثة في سائر الحقول، والتجسير مع ثقافات العالم عبر شبكةٍ من المترجمين والمراسلين المتمرّسين. وفي هذا الشأن بالذات، تستكمل هذه الصحيفة تراثا غنيا للصحافة العربية بإيلاء اهتمامٍ فائقٍ للشأن الثقافي، وتضيف إلى هذا التراث بشمولية المتابعة وتوخّي الدقة، والاغتناء بالمعلومات والخلفيات للمجريات الثقافية.
يأمل كاتب هذه السطور بألا تكون شهادته مجروحة، فقد شاءت الظروف أن يواكب، عبر الصداقات الشخصية والمهنية، أحوال إصدار هذه الصحيفة، وكان وما زال أحد كتّابها، من دون أن يكون من فريقها، بما يمنحه في مجال التقييم هامشاً لنظرة مستقلة. ولا شك في أن العمل اليومي، وتحت ضغط الوقت، عُرضة للوقوع في الأخطاء، على أن الذاكرة لا تُسعف حقاً باسترجاع أخطاء "كبيرة" وقعت، ولوحظت في مسيرة الصحيفة، وربما يتعلق الأمر بما ينتاب الذاكرة البشرية مع التقدّم في العمر!