"حالة" مبروك عطية
سخر الداعية مبروك عطية من السيد المسيح، ثم ظهر ليعتذر، وقال "سبق لسان". هل من الممكن أن "عالما" لا يعرف "ألف باء" في الإسلام؟ يتساءل الشيخ مبروك، في استنكار، والإجابة لا طبعا، لا يمكن للشيخ أو غيره أن يسيء، واعيا، للسيد المسيح، الذي هو في التصوّر الإسلامي من أولي العزم من الرسل. ومع ذلك، من يتابع "فيديو" مبروك الذي تحدّث فيه باستخفاف عن المسيح، عليه السلام، يدرك أن ما حدث ليس "سبق لسان"، كما قال الشيخ، أو "استتباع" كما أشار إلى ابن الأثير، إنما هي "حالة خطاب"، تكشف عنها حلقات مبروك وغيره من "العلماء"، كما يصفون أنفسهم، أو كما يصف الشيخ مبروك نفسه بالعالم، أو العالم الكبير، على حد تعبيره في مداخلته مع الإعلامي محمد الباز، والتي خصّصها للدفاع عن نفسه، لا من تهمة الإساءة إلى السيد المسيح، بل من تهمة الإساءة إلى السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي "الذي قيّضه الله للأمة، ولولاه لكانت مصر في خبر "صار"، كما قال الشيخ مبروك.
يبدو مبروك عطية "نموذج حالة" مخفّفاً للخطاب الديني الرائج في مصر والوطن العربي منذ سبعينيات القرن الماضي، وهو خطاب "واحد" يتفق أصحابه في نوعه، ويختلفون في درجته، وتجمعهم، على اختلاف ولاءاتهم المذهبية، صفات (وشروط)، تحملهم إلى الجماهير، أو بالأحرى تسمح لهم بالمرور، بمعرفة الدولة أو بغضها الطرف، أبرزها: "القفز من وراء التخصص".. يتحوّل "العالم" إلى "داعية سريح"، لا محل له، ولا رخصة، ولا استعداد لدفع ضرائبه أو فواتيره، فهو يبيع ويكسب، من دون أي مسؤولية، ولا حتى عن بضاعته. وسواء كان الشيخ أكاديميا، مثل مبروك عطية، أو "على الله" مثل أغلب شيوخ الفضائيات الدينية، (ناهيك عن "السوشال ميديا")، فإن تخصّصه الدقيق هو آخر ما يتحدّث به، أو يقف عند حدوده، مع ترديده، الدائم والمستمر، من غير كلل أو ملل، أنه، وحده، المتخصص، ومن يحق له الكلام في الدين أو به أو عنه، وعلى غير المتخصّصين أن يمتنعوا، تماما ونهائيا، لا عن الحديث في الدين أو حوله، فحسب، بل عن مجرد مساءلة الشيخ فيما يقول. مبروك عطية، مثلا، خرّيج لغة عربية، وأستاذ لغة عربية، ولم يحصل على ليسانس الشريعة إلا منذ شهور قليلة، بعد عمله سنوات طويلة، على الفضائيات، فقيها ومفتيا. وهو ما سبقه إليه كثيرون، منهم الشيخ محمد متولي الشعراوي، فهو أيضا خرّيج لغة عربية، وأستاذ بلاغة شاطر، وصاحب قدرة مدهشة على تبسيط مادته، وتقريب معاني الكتاب العزيز، وكانت خواطره على التلفزيون المصري، وحدها، كافيةً ليصل إلى الجمهور، بمادة مفيدة وممتعة، في أغلبها، إلا أن شروط الشهرة، وإكراهاتها، دفعته إلى تجاوز تخصّصه (وإمكاناته)، فكان ما كان من فتاوى (وتصريحات) تحريم غسيل الكلى، وزرع الأعضاء،… إلخ.
إلى هنا، نحن أمام ظاهرة غير علمية، يتجاوز الشيخ تخصّصه إلى غيره، اعتمادا على شرعية الجامعة التي تخرج منها، أو شيخه الذي منحه الإجازة، أو حتى "عدّة الشغل"، من لغة مقعّرة، ومظهر وسمت وخلافه، إلا أن اشتراطات زماننا الرديء، تجاوزت "تجاوز التخصص" إلى تجاوز كل شيء، فالشيخ، الآن، لا يصير جماهيريا (وربانيا)، إلا إذا تخلّى، تماما ونهائيا، عن أخلاقه، المفترضة، وتركها عند باب الأستوديو، أو خلف الكيبورد أو كاميرا الموبايل. .. تحوّلت "الشبحنة" إلى غِيرةٍ على الدين، والسباب والشتيمة إلى قوة في الحق، والتحرّش والتنمّر والاستهزاء بالآخرين إلى إفحام للخصوم، كما تحوّلت قيم الرحمة واللين والترفق بالناس واحترام المخالف إلى "دين جديد" و"كيوت" و"دياثة عقدية"، غاب نقد الخطاب المشيخي، وجرى تجريمه (لحوم العلماء مسمومة)، فأخذ الشيخ راحته، على الآخر، وتجاوز "سبق اللسان" إلى سبق الأفكار والفتاوى والتصريحات والفيديوهات، وصار منطق "السبق"، وحده، يحكمه ويوجهه، مع استثناء واحد ووحيد، هو تجاوزه في حق ظهيره السياسي. هنا يسكت الشيخ عن الكلام المباح (أو المفروض)، ويطلب الستر.