ما السبيل لتجاوز أزمة الحكم في تونس؟
كأن الزمن توقف في تونس، لم تُغادر أزمة الحكومة محطتها الأولى بعدُ. أزمة انعكست على السير العادي لمؤسسات الدولة، وفاقمت التدهور الاقتصادي، وأرهقت ميزانية التونسيين. وأكمل فيروس كورونا مهمة التعطيل.
لا تقل أزمة السياسيين تصعيدا ولا توترا، فبإصرار شديد، يُرافع الرئيس التونسي قيس سعيّد للظَفَر بصلاحيات أكثر. في ذهنه رغبة في تغيير المنظومة السياسية بالكامل، يريد نظاما رئاسيا. يرفض الجلوس مع رئيس الحكومة هشام المشيشي، ورئيس البرلمان راشد الغنوشي، على الرغم من مناشدات عديدة، كما يرفض تنظيم حوار وطني إلا بشروطٍ بدت تعجيزية للمبادرين بالدعوة إلى الحوار.
لدى الرئيس التونسي رغبة في تغيير المنظومة السياسية بالكامل، إنه يريد نظاما رئاسيا
سعيّد، وفي مواصلة لمعركة الصلاحيات وتأويل الدستور، أكد خلال الاحتفال بعيد قوات الأمن الداخلي، وبلهجة حادة، أنه القائدُ الأعلى للقوات العسكرية، والقوات الأمنية التابعة لوزارة الداخلية، والجمارك. قال إنه "القائد الأعلى للقوات المسلحة، بكل أسلاكها". استدرك بالقول "لا أميل لأن أحتكر هذه القوات، ولكن النص واضح، ومن لم يتضح له سنة 2014 فليكن هذا واضحا منذ اليوم". فهل من حلول سحرية تُخرج تونس من عنق الزجاجة؟
يقترح بعضهم حصول توافق بين الرئيس سعيد ورئيس البرلمان الغنوشي على تشكيل حكومة جديدة، والاستغناء عن هشام المشيشي. يبدو هذا السيناريو مستبعدا مع عمق الهوة بين حركة النهضة وسعيّد، وكذلك مع تأكيد الحركة تمسكها بالمشيشي. ولكن هل يُشكل إبعادُ المشيشي من رئاسة الوزراء حلا للأزمة المعقدة التي تمر بها تونس، والتي تتجاوز مجرّد تسميته رئيسا للحكومة، ذلك أن الأزمة لا تتعلق بالأسماء، بقدر ما تتعلق بتنازع الصلاحيات بين رئيسي الجمهورية والحكومة، والتي تفسّرها كل جهة بطريقتها، في غياب وجود محكمةٍ دستوريةٍ مخول لها قراءة النصوص الدستورية وتفسيرها. في أول رد فعل له على تصريحات رئيس الجمهورية، وصف رئيس الحكومة هشام المشيشي، الذي يشغل كذلك منصب وزير الداخلية بالإنابة، ما جاء في خطاب الرئيس سعيد بأنه "خارج السياق، وليس هناك موجب للقراءات الفردية والشاذة للنص الدستوري".
أصبح السعي إلى تشكيل المحكمة الدستورية أكثر من ضرورة لتجاوز التأويلات الشخصية للدستور
واعتبرت حركة النهضة ما جاء في كلمة الرئيس سعيد خرقا للدستور وقوانين البلاد وتعدّيا على النظام السياسي. وانتقد مجلس شورى الحركة، في بيان له، ما سمّاه "تعطيل مصالح ودواليب الدولة". وقال إن على الرئيس "تجنّب كل ما من شأنه تقسيم التونسيين، أو اعتماد تأويلات فردية للدستور تعطّل مصالح الدولة والمجتمع". كما حذّر "من كل عمل فيه تراجع عن مكتسبات الثورة من حرية وديمقراطية".
تفعيل التعديل الوزاري، من دون موافقة رئيس الجمهورية، مُقترح آخر، لوّح به المشيشي، ويسعى مناصروه إلى توقيع عريضةٍ لإعفاء قيس سعيد من مهامه. قد يعمّق المقترحُ الأزمة أكثر من أن يحلَّها، فإعفاءُ رئيس الجمهورية لن يتم إلا بشرط الخرق الجسيم للدستور، ومن خلال المحكمة الدستورية التي رفض الرئيس التصديق على مشروع قانون لتعديلها ورَدَّهُ مجدّدا إلى البرلمان.
تدوير الزوايا الحادة مهمةٌ صعبةٌ في الأزمة التونسية. فكرة أخرى تدور في أذهان مُقترحي الحلول، تنظيمُ انتخابات مبكرة. تلقى هذه الفرضية دعم الأحزاب التي أخفقت في انتخابات العام 2019، والأحزابِ الصغيرة، لكنَّها لا تروقُ لحركة النهضة، والأحزاب الممثلة حاليا في البرلمان. لأنها ببساطة، لا ترغب في دخول مغامرةٍ انتخابيةٍ قبل أوانها. يبقى في جراب السيناريوهات تفعيلُ التعديل الوزاري لحكومة المشيشي، وهو أمرٌ تدعَمُه حركة النهضة، ولكنه يقتضي أداء الوزراء اليمين الدستورية أمام طرفٍ آخر غير رئيس الجمهورية. يرفض قيس سعيد الأمرَ جملة وتفصيلا. لا تُقرُّه نصوص الدستور أيضا، والتي تَفرِض وجوب أداء اليمين أمام رئيس الجمهورية حصريا.
من الضروري أن يحرص الفاعلون في المشهد السياسي التونسي على ضرورة النأي بالمؤسستين العسكرية والأمنية عن الصراعات
اعتبر رئيس الهيئة السياسية لحزب الأمل، المعارض، أحمد نجيب الشابي، أن الرئيس سعيد يقودُ انقلاباً ناعماً على السلطة في تونس، موضحاً أن الانقلاب ليس بالضرورة عملاً عسكرياً، بل "عمل تسلطي غير شرعي من شأنه النيل من قواعد تنظيم الهيئات القائمة، أو من سير أعمالها أو صلاحياتها، بحسب فقهاء القانون الدستوري". ولتجاوز هذا الصراع، يقترح الشابي الذهاب إلى استفتاء بشأن كل هذه الثغرات القانونية، بكل ما يمثله ذلك من "خطوة تمهيدية لإجراء انتخابات عامة مبكرة، تكون مسبوقةً بتعديل القانون الانتخابي، حتى لا تنتج تونس المشهد السياسي السابق نفسه"، وفق تعبيره. أنصار الرئيس قيس سعيد والقوى السياسية المؤيدة له يعتبرون الحديث عن الانقلاب توظيفا سياسيا من خصوم سعيّد، لأن خطابه، في رأي القيادية في حركة الشعب والنائبة في البرلمان ليلى الحداد، هو نقاشٌ دستوريٌ لا يمكن اتهامه بمقتضاه بالانقلاب، خصوصا في ظل ربطه بزيارته أخيرا إلى القاهرة، ومحاولة بعضهم رميه بمحاولة استنساخ تجربة الرئيس عبد الفتاح السيسي.
ما السبيل إذاً لتجاوز أزمة الحكم في تونس؟ من الضروري أن يحرص كل الفاعلين في المشهد السياسي التونسي على ضرورة النأي بالمؤسستين، العسكرية والأمنية، عن الصراعات والمناكفات، لما يمثله ذلك من مخاطر على أمن البلاد واستقرارها. وقد أصبح السعي إلى تشكيل المحكمة الدستورية أكثر من ضرورة لتجاوز التأويلات الشخصية للدستور، على الرغم من صعوبة إنشائها وسط الانقسامات السياسية الحادّة. من الضروري أيضا أن ينتبه التونسيون إلى أنه لا حل لأزمتهم إلا بالحوار، والتنازلات. ذلك الطريق وحده كفيل بحل أزمة الثقة بين الرئاسات الثلاث. (الجمهورية، البرلمان والحكومة). حوار، للمجتمع المدني نصيبٌ في تفعيله وتحريكه، يتقدّم صفوفَه اتحادُ الشغل، ومنظماتٌ اجتماعيةٌ وهيئاتٌ مدنية، كما كان الأمر في العام 2013، حين قاد الحوار إلى حل توافقيٍّ جنّب البلاد انقساما سياسيا حادّا، وأهّل المنظماتِ الأربعِ الراعية للحوار لنيل جائزة نوبل للسلام.