"مقامات" .. بعيون شوفينية
شهد أول أمس، الأحد، 2 يناير/ كانون الثاني 2022، ظهور قناة "العربي 2"، وهي قناة منوّعات، من نوع آخر، أكثر مسؤولية، فيما نزعم، ووعيا بقيمة الفنون والآداب، وأهميتها، وأهمية ألا تتحوّل إلى مواد للتسلية، من دون وعي أو قيمة مضافة. هكذا نريدها، ونأمل أن يكون لنا ما نريد. التجربة في بدايتها، وأمامها الكثير لتتكلم، فتُرى، لكنني أشير، هنا والآن، إلى واحد من رهاناتها، وهو برنامج "مقامات" للفنان المغربي رشيد غلام. سبق أن قدّم "تلفزيون العربي"، في قناته الأولى، الموسم الأول منه، في شهر رمضان عام 2019، وحالت جائحة كورونا دون استئناف الموسم الثاني، في موعده. يعود البرنامج مع "العربي 2"، رشيد والمايسترو محمد الأسود ونخبة من الموسيقيين التونسيين، بعضهم يدرس آلته في معاهد الموسيقى العليا، والآخرون أصحاب خبرات وتجارب موسيقية متنوّعة تجعلهم الأقرب لطبيعة البرنامج.
ينشغل "مقامات" بالغناء العربي الكلاسيكي، في مراحله المختلفة، يجوب خريطة الوطن العربي من المحيط إلى الخليج، لا ليتعرّف على أحوال الغناء فيها الآن، فهذا موجودٌ وموفور، وليس عربيا، في معظمه، إنما يذهبُ حيث كان الزمان عربيا.. الغناء عربيا، الألحان والكلمات والأداءات، عربية، وعروبية، خالصة، لا فنون خالصة، بطبيعة الحال، ولا أفكار، ولا ثقافات، ولا حضارات خالصة، لا نقاء عرقي أو غيره. ثمة تأثيراتٌ وتأثرات، إنما نتحدّث عن المحدّد الرئيس الذي ينطلق منه (أو إليه) الفنان، ويزن بميزانه. هذا هو الفرق بين الاختيار والتبعية، التفاعل والانقياد، الاستفادة والبلادة، من هنا يبدأ "مقامات".
يتوقف الغناء الأصيل، أو زمن الفن الجميل، كما في العبارة الشهيرة، وغير المستهجنة من وجهة نظري، فهي تعميمٌ مخل، على خفيف، وله وجاهته، عند حدود سبعينيات القرن الماضي، لكنه يبدأ، في أغلب معالجاته، من الربع الأخير من القرن التاسع عشر. ويرتبط هذا النوع من الفنون، والبرامج التي تستدعيه، بتجارب البارزين، من الملحنين، في ذلك الزمان، وأغلبها مصري، من سيد درويش إلى بليغ حمدي. خلاصة التجربة، ونهايتها، على الأقل في تقدير الكاتب، ومن بعده تبدأ تجربة جديدة، ولون جديد، من الموسيقى والغناء. يختلف الفرقاء بشأن مدى جدّيته وأصالته. ذهبت إلى "تجربة مقامات"، وفق هذا الوعي، شوفينيةٌ مصريةٌ فنيةٌ خالصة، وهي، بالمناسبة، الشوفينية الوحيدة الحقيقية، والممكنة، وما سواها متخيّل. يعرف ذلك من يعرف المصريين في بلادهم، لا في غربتهم، حيث يتوغل الحنين إلى الأوطان على ما سواه من طباعهم، فيبدو من أمرهم ما يتصوّره أصحاب الأحكام المتسرّعة شوفينية.
مع التحضير للبرنامج، والقراءة عن الضيوف وألوانهم، بدت خريطة العرب أكبر من حجمها الطبيعي، وبدا تراثهم أعمق بكثير مما يتصوّر مصري أو غيره. تراث كبير، ممتدّ، (لم ينقطع يوما)، شديد الثراء والتنوّع (والجمال). توقفت، منبهرا، أمام موسيقى المالوف، ميراث المغرب العربي من الأندلس، حيث نزح الفنان الأندلسي إلى هذه البلاد، واستوطنها، فأخذت منه، وأضاف كل بلدٍ من روح موسيقاه، فتنوّع المالوف بتنوع آخذيه، وتنوّعت معالجاته، ما بين تونسي، ومغربي، وجزائري، وليبي. كان من اللافت أيضا أن بعض ألوان الموسيقى المحلية يستعصي، في تذوّقه، ناهيك عن عزفه وغنائه، على غير أهله، ويحتاج إلى مزيد من الوقت والجهد، ليفهمه المتلقي، ويدرك مواطن الجمال فيه، وهو ما وجدتُه في الغناء اليمني، وتنوّعه الذي يحتاج إلى موسم وحده، وأيضا المقام العراقي، (الفخم)، وهو ظاهرة تستحق الدراسة، قبل السماع.
يتميّز الفنانون المؤدّون لهذه الألوان الغنائية العريقة بثقافةٍ غير معتادة لدى أغلب الفنانين الذين تتوقف حدود إمكاناتهم عند أداء فنونهم، فلا يقلّ الحوار في "مقامات" متعةً عن السماع. يتحدّث الفنان كما يغنّي، في قدرةٍ وتمكّن نادرين. أغلب الفنانين أكاديميون، يدرسون لونهم في أعرق الجامعات الأوروبية. أغلبهم لا ينقصهم شيء من معايير "نجومية السوق"، لكنهم مهمومون بما لديهم من معرفةٍ وقيمةٍ تحول بينهم وبين تيار "الهلس" وإغراءاته المرعبة. "مقامات" أكثر من مجرّد برنامج، فلا تفوّتوا حلقة.