آدم وانشغاله بطلب السعادة
ماكينات طلب السعادة منذ أن خلق الله آدم، حتى بريق فترينات عرض الملابس في شوارع الميادين الشهيرة بالمعروضات والحلي والملابس، حتى أحلام أولاد الشوارع أمام زجاج محلات كنتاكي مرورا بأحلام العظماء والزعماء وأمراء الجيوش والحملات التي تمخُر عباب المحيطات بحثا عن بريق الذهب في القارّات الجديدة، مرورا بأحلام المراهقين في اقتناء الملابس والخواتم ومغازلات الفاتنات القمر وحلم بنات القرى البسيطات في إيطاليا في نيل فرصة عمل أمام الكاميرا، مرورا بحلم الفلاحين من أجل سلامة الزّرع والضرع، كي يزداد المحصول وفرةً، وتتزوّج البنات إلى بائعات العطور والكحل في الأسواق والمراكب في قرى صعيد مصر بحثا عن جنيه من جيب ثريٍّ يريد أن يتبضّع لبناته، بعد حصوله على المكافأة الشاملة من خدمته العسكرية، وذلك كله بحثا عن درهم السعادة الشحيح والمخاتل، تلك اللحظات التي تجد فيها القلب وقد انفرط عقدُه وتمايلت شمائله على الجنبين، لأن حبيبة ناولت خطابا به كلمتين وعنقودا من عنب أو نال درجة وظيفية أو أدرج اسمه في قائمة البعثات الدبلوماسية أو اشترى فرسا أبلق مليحا، ورمح به الفرس "على طريق الطرادي"، وخبّ في الكشمير خبّا تحت أشجار التوت في ليلة عيد، أو استمع إلى "الست" في سينما قصر النيل، وكانت جلسته في صفٍّ رابع على مقربة من كرسي ليلى فوزي، وظلّ يحكي ذلك في "أبعديته" البعيدة.
ما سرّ هذه السعادات التي نبحث عنها مرارا حتى نشيخ، ويشيخ حتى أحفادنا في طريقة طلبها نفسها، أو بحثنا عنها، وقد ذهبت بعيدا عنّا بعد ما صرنا في "دار للمسنّين"، بالقرب من دار السلام، وما عدنا نسمع آهات أم كلثوم.
ما سرّ هذا البحث الذي طال أمده من قرون، وسيطول قرونا أخرى من دون أن تمسك أصابعنا هذا "الجسم" المراوغ لتلك الغانية التي اسمها السعادة، والتي غالبا ما تكون على أطراف أصابعنا أو تحت السلالم القديمة لبيوتنا القديمة التي تركناها وهاجرنا بعيدا وراء وهمها الجميل، وفجأة تفرّ منا إلى هناك أو إلى أي مكان آخر غير الذي قصدناه بحثا عنها، وقد تعود، وقد لا تعود، إلا في أواخر أعمارنا، هدية آخر العمر لمسكين.
عجوزٌ تبحث ضاحكة عن الكحل بعد ما شابت أو حتى عن طعم الملبن بعد ما كبر أحفادُها وركبوا ظهور الخيل وشاب بعضهم أو تطلب من حفيدتها بعض الحنّاء.
ما سر استمرار هذا الوهم الجميل معنا؟ وهم أمام عيون فرس الإسكندر وفي أنياب أفيال أبرهة الأشرم وتحت أجنحة أكاذيب رئيس الحزب الذي يبحث له عن مكانٍ تحت الشمس بالقرب من دولة التاج أو مقعد خلفي أمام منظر المحروسة وقد أمال طربوشه على الحاجب، والمحروسة نفسها تغازل أيضا أكاذيب أخرى كانت مخبأة في قرون الغيب.
طفل يعارك صاحبه من أجل الاستحواذ على لعبته وفتاة تحاول جاهدة بكل السبل أن تستعير فستان جارتها كي يراها فتاها في فرح في "كبرتاج حلوان"، وقد اشترت الوردة، وعبد الوهاب هناك وقد أمال الطربوش على الحاجب، ولور دكّاش وهي تخطو مع ثريٍّ أحبّها كي يختار لها قطعة أرض على أطراف مصر الجديدة، فرفع النسيم طرف فستانها، فجلست خجلة فوق الرمال، فقال لها العاشق: "هنا سيكون مكان بيتك"، وكان، وظلت تعزف على عودها وتغنّي في ذلك الظل السخي بالمودّة من دون أن تزاحم أحدا على المكانة.
تلك السعادة التي فجأة تطرح مودّتها علينا في ساعة سخاء، فنظلّ نلهث وراءها في القطارات والمطارات والنوادي الليلية، والطائرات وملاعب كرة القدم وصالات السينما وأفراح الحصاد وجمع المحاصيل وقطف الورد وأسواق الغلال حيث المكاسب سخيّة، ونبحث عنها في أيام العطلات والأعياد وحوافز العمل ومكافآت الأحزاب والحصول على الدرجات العلمية من الجامعات والدرجات العالية في الثانوية العامة والعودة من الصلوات والحج حينما يرسم النقّاشون السفائن والمراكب بالجير والألوان على حوائط الحجاج الطينيّة وترقص النسوة بسعف النخيل والورد من قرى العرب أمام الحجّاج.
كيف ننتقل من سعادة إلى أخرى بعدما تجفّ الأولى تحت جلودنا التي أدمنت الطلب، وما عادت تشبع حتى وإن شاخ الكوكب، وقلّ، لا قدّر الله، عطاء الأرض على مساكينها من السكّان.
هناك كتكوت يمشي واثقا تجاه فتات العيش ويحدّق في الشمس في عشم سعيد ويسارع إلى شرب الماء حتى يرتوي، فما أجمل الحياة، وما أتعس من يخطّط لموت أحد أو إصابة مخاليق الله بالأذى.