أبعد من تدمير منزل عرفات
صحيحٌ أن جيش العدوان يتعمّد، في حرب الإبادة المعلنَة التي يواظب عليها في قطاع غزّة، منذ نحو خمسة أشهر، أن يدمّر كلّ عُمرانٍ وكلّ بنيان، وأن يُفسِد كل ما ييسّر حياةً طبيعيةً للعيش. وصحيحٌ أنه يزاول جرائمَه هذه مدفوعاً برغبة تحطيم كلّ وجودٍ فلسطيني، من بيت حانون شمالاً إلى رفح جنوباً، غير أنه عندما يستهدف بالقصف مآثر ومساجد وكنائس وأسواقاً قديمة وجامعاتٍ ومنشآتٍ ثقافيةً وعمائر عتيقة ومتاحف، فإنه يقصدُ تماماً ارتكاباته هاتِه. صحيحٌ هذا بقدر ما هو صحيحٌ أيضاً أن قصف إسرائيل منزل ياسر عرفات (ومقرّه ومكتبه الرئاسي) في مدينة غزّة، قبل أيام، وتدميرَه، كان للأمريْن معاً: العاديّ الذي يُدرِج المنزل في الكلّ الفلسطيني المستهدَف بالقتل والهدم، والمحمول الترميزي لهذا المنزل، الأنيق، والذي استقبلَ فيه عرفات زعماءَ ومسؤولين عديدين (بينهم كلينتون)، وفيه صور للرئيس الشهيد، وأوسمةٌ ودروعٌ حازها، وتذكاراتٌ ومقتنياتٌ تخصّه، فضلاً عن متعلقاتٍ لابنته وزوجته. وإذ يأسى الفلسطينيُّ على منازل بلا عددٍ في القطاع المنكوب أحرقتْها نيران العدوان الجاري، فإنه لا ريب سيغْشاه أسىً من جنسٍ آخر بشأن الذي فعله المعتدون بمنزل عرفات، المنزل الذي يُحسَب واحداً من شواهد مقطع انعطافيٍّ في الذاكرة الوطنية الفلسطينية. ذلك أنك لا بد ستتذكّر، وعيناك تجولان في الخراب الذي أحدثه العدوان في المنزل، في غرفه وأثاثه وأبوابه وسقفِه وواجهاته، أن عرفات صاغ هنا، حيث أقام فيه بضع سنوات، الحلم الذي تعلّق به، واستبدّ بجوارحه، أن تنهض للفلسطينيين كينونةٌ في وطنهم، وهو الزعيم من قبلُ ومن بعْد، والفدائيُّ الذي كان شغوفاً بالترميزات الفلسطينية ومسكوناً بها، وأقام علاقةً شديدة الفرادة بينه وبين شعبه في الوطن والشتات.
كانت رواقيّةً عاليةً تنمّ عن حسٍّ عال بالمسؤولية من نائب رئيس المكتب السياسي في حركة حماس (في حينه)، إسماعيل هنيّة، حرصه الشديد على حماية منزل ياسر عرفات، وقد طوّق الاستباحة التي ارتكبتها عناصرُ من الحركة ساعاتٍ، وقال عند تسليمه المنزل لحركة فتح (ممثلّة بزكريا الآغا) في نوفمبر/ تشرين الثاني 2015، إن "حماس حافظت على المنزل لرمزيّة الرئيس الراحل" بعد أن ظلّ مغلقاً منذ 2007. وعُلم تالياً أن سهى عرفات (شكرَت هنيّة هاتفياً) أجازت تسليم المنزل إلى مؤسّسة الشهيد ياسر عرفات (مقرّها في رام الله). وهذه إسرائيل، وكراهية قادتها وساستها عرفات محلّ إجماعٍ مشهود، عندما تقصف المنزل إنما تتعمّدُ اعتداءً مشهوداً على هذه الرمزية، أو، بمعنى آخر، على واحدةٍ من تمثيلات الوطنيّة الفلسطينيّة الجامعة. وفي البال أن عرفات في ظهيرة الأول من يوليو/ تموز 1994، لمّا عبر إلى غزّة، في عودةٍ (أو بعض عودة؟) إلى فلسطين، لم يضحك على أي ذقون، بل خاطب عشرات آلافٍ احتشدوا لسماعِه في ساحة الجندي المجهول، إنه يعرف أن اتفاقية أوسلو التي أعادته، ورفاقاً له عديدين، من تونس ومنافي عديدة، لا تلبّي تطلّعات بعض مستمعيه، "لكنها أفضلُ ما أمكننا الحصول عليه من تسويةٍ في ظلّ الظروف الدولية والعربية الراهنة". ولا يفضَح صاحبُ هذا التعليق سرّاً إذا ما أبلغ قرّاء سطورِه هاته إنه سمع من عرفات شخصيّاً أن "أوسلو" أسوأ مما يُرمى به من سوء.
ليس ثمّة أحدٌ، في غضون المحنة المهولة الراهنة في قطاع غزّة، في مزاجٍ للمجادلة بشأن الرهانات التي كان يُنبئ بها "أوسلو"، غير أن من النافع أن يُتذكَّرَ أن هذا الاتفاق حاربتْه إسرائيل نفسها، بيمينها ويسارها المائع، بدليل أنها لم تمضِ إلى تنفيذ استحقاقاتِه بعد قتل إسحاق رابين في 1995، وأن تدمير الرمزيّات الفلسطينية الناشئة عنه كان أول نشاطٍ يُقدِم عليه شارون، عند تولّيه رئاسة حكومة العدو، من قبيل تدميرِه المطار في غزّة، ومضيّه في تهديم منشآت السلطة الفلسطينية، الأمنية خصوصاً. لقد بنى الفلسطينيون في عموم غزّة، في السنوات الأولى بعد "أوسلو"، عُمراناً جميلاً، وكان الغزّيون، إبّان ذلك، يروْن بأمّهات عيونهم منجزاتٍ واعدةً وطموحة، وفيهم آمالٌ وآمال. أعاد ياسر عرفات نصْب تمثال الجندي المجهول الذي تشير بندقيّته إلى القدس، قبل أن يأتي زمنُ الانقسام ويُزيل أحدُهم الجندي وإشارته تلك. كان عرفات يحرِص في كل عيد على معايدة والدة أول شهداء الانتفاضة الأولى، حاتم السيسي، في منزلها في مخيّم جباليا. كان يفعل ما يفعله زعيمٌ لشعبٍ تحت الاحتلال والنيران، ... ثم نال منزلُه التدمير الذي رأينا في أتون حرب الإبادة الراهنة.