أبعد من حرق أحمد جواد نفسَه
كيف للإنسان أن يتصوّر رجلا مسالما صائما، يحبّ زوجته وولديه إلى حدّ الهوس، أي بمعنى أنه إنسان طبيعي في سلوكه ومظهره وتصرّفاته، ثم، في لحظة ما، وهو لابس سترة بربطة عنق، يصبّ البنزين على جسمه النحيف بتمهلٍ وتؤدة، وكأنما يروي أصيص ورد عطشان، ثم بدون وجلٍ وتردّد، يشعل فيه النيران ويسقط على الأرض، وألسنة اللهب تتطاول إلى عنان السماء آكلة حارقة شاوية، وعيناه شاخصتان إلى الأمام دونما جزع أو هلع، كمن تبحثان عن شخصٍ بعينه لتقول له بلسان حالها المفجع: - عِش أنت/ إني احترقت بعدك/ وأطل إلى ما شئتَ بُغضك ...
إنه مشهدٌ رهيب ترتعش له فرائص أشجع الشجعان، وتنفطر له قلوب الجبابرة العظام، ناهيك بمن كان مارّا عرَضا في الشارع العام من النسوة والأطفال. ويحدث هذا في شهر رمضان، وبالذات في المغرب، بلد كل العجائب والمفارقات والتناقضات. يحدُث في وقت كان الناس فيه يعيشون بين بقايا نشوة المونديال ونشوة النصر الجديد لفريقهم الوطني على البرازيل، وهم في سكرتهم ساهون عن هزيمتهم الساحقة أمام البلاء والجفاف والغلاء.
من يكون بطل هذه التراجيديا التي مثلت حقيقةً، ليس على خشبة المسرح هذه المرّة، وإنما على قارعة الطريق، وأمام مقرّ وزارة الثقافة المغربية؟ إنه مسرحي معروف في وسط الفن والثقافة، اسمه أحمد جواد، ستيني تقاعد أخيرا، وكان يعمل في مسرح محمد الخامس منظّما ومديرا للقاءات، ومخرجا ومقدّما للمسرحيات، وقارئا بارعا لقصائد الشعر والزجل في مناسبات عديدة. ليخرج بخفيّ حنين من وزارة مهمّشة شحيحة بتقاعد مخجلٍ هزيلٍ لا يتعدّى الألفي درهم (200 دولار). مبلغ لم يكن يكفي حتى لسداد إيجار شقته في حي تابريكت في سلا، حيث كان يجاوره أخي، وكانت تلك الجيرة تسمح لي بلقائه بين فينة وأخرى.
كان يشكو من التهميش والتضييق على الرزق الذي ما فتئت تمارسه عليه الأذرع الثقافية للسلطة، لكونه كان من دعاة الحرية ومواظبا في مسرحياته على التفكير النقدي ضد الفساد والاستبداد
منذ عرفته وهو يشكو من التهميش والتضييق على الرزق الذي ما فتئت تمارسه عليه الأذرع الثقافية للسلطة، لكونه كان من دعاة الحرية ومواظبا في مسرحياته على نشر التفكير النقدي ضد الاستبداد والفساد بشجاعة وإقدام. فكان عقابه المنتظر أن ضيّقت وزارة الثقافة عليه الخناق، وحرمته من الدعم الذي تجود به على كل من يُتقن التملق لمسؤوليها الكبار، وينأى عن تخطّي خطها الأحمر المرسوم بالأسلاك الشائكة.
وبما أنه كان عنيدا جدا، وابتلي لسوء حظه بعشق مهنةٍ طاولها البوار في بلدٍ يعتبر أهلُه المسرح من الكماليات، فقد انخرط في سلسلة من الاحتجاجات والاعتصامات والإضرابات عن الطعام. وقد أقدم مرّة، وهو في ذروة يأسه، على نشر مقال على الصفحة الأولى لإحدى اليوميات بعنوان: "معالي الوزير ... إني أتسوّل"، فما التفت إليه أحدٌ ولا رقّ له قلب. ولما طال عليه الأمد، وأحكم العوز قبضته على عنقه، تنازل عن بعض كرامته، وأخذ يطلب العون والمساعدة ممن كان يعتبرهم أصدقاءه المخلصين، فما استجاب له إلا قليلون.
عمد أخيرا إلى إعادة إخراج مسرحية "كناش لمعاش" للزجّال المغربي إدريس المسناوي، واتصل بي طالبا مني إعادة قراءة تقديم قديم للمسرحية كان قد كتبه بالفرنسية الصحافي الراحل خالد الجامعي، وكنت قد ترجمته إلى العربية. وكان لهذا التقديم حكاية طريفة، ذلك أن الجامعي لمّا كتب النص، سأله إن كان يعرف مترجما يفي بالغرض، فأجاب بأن المترجمين كثر وأنه سيحاول إيجاد أحد يقوم بالمهمة. وبعد لأيٍ، تعثرت محاولاته، فقال له الجامعي وهو يهبّ لمساعدته: - لا عليك، سيأتيك النصّ مترجما غدا. .. ولما أرسله له أعجب به وسأله عن هوية المترجم. فردّ عليه الجامعي: - وما شأنُك وهوية المترجم؟ أجاب: - كي أضعها في الجينريك. رد: - أنصحك أن تعرِض عن هذا، لأنك إن غامرتَ وفعلت، فقد تمنع وزارة الثقافة مسرحيتك بالمرّة. فأجاب أحمد معاندا: أرجوك أن تفصح لي عن اسم المترجم، وليكن ما يكون ... وفعلا كشف له الجامعي عن اسمي، ففوجئ الرجل وسرّ سرورا كبيرا، وطبعه مع التقديم بدون تردّد في مطوية وزّعت في بداية العرض. ولمّا راجعت التقديم القديم في الأسابيع القليلة الماضية ولم أجد فيه ما يضير، افترقنا بعد ذلك وعلمت أنه قدّم مسرحيته مرّتين على ما أعتقد من دون أن يستفيد من أي دعم. وبعد أيام، جاءني خبر محاولة مسرحي مغربي الاحتجاج بإحراق نفسه أمام وزارة الثقافة، فصُدمت للخبر، وكنتُ أبعد ما يكون عن تصوّر أن الأمر يتعلق به.
مأساة مفجعة تختزل كل ما تعيشه الثقافة والمثقفون في المغرب من تدهور وانحدار
استعرضتُ تجربتنا الأليمة في معتقل العار تزممارت، ونحن طوال 18 سنة نصارع الموت دقيقة بدقيقة، ولم يُقدم فينا على الانتحار إلا واحد، وهو المرحوم ميمون الفاكوري، وكان وقتها فاقدا عقله كليا. وعندما أدركت أن جوادا هو من أقدم على هذه التراجيديا، أخذني الدوار وذهب ذهني توّا إلى بنته "مناسا" التي كان يتفانى في حبها هي وأخوها، فتساءلت: هل كان اليأس أطغى من هذا الحب الجارف؟ أم أن الخوف من عدم ظهوره أمامهما بمظهر الأب العطوف الكافل حياتهما هو ما حمله على ارتكاب هذه المأساة؟
إنها حقّا مأساة مفجعة تختزل كل ما تعيشه الثقافة والمثقفون في المغرب من تدهور وانحدار. ديدن المسؤولين عنها احتقار من لا يسير على نهجهم، والإغداق على برامج السخافة والتفاهة والرداءة، مع تنظيم مهرجاناتٍ للإلهاء والتضبيع يُصرف عليها من دون حسيب أو رقيب. ... رحمات الله تغشى روح المرحوم أحمد جواد، وعند الله تجتمع الخصوم، كما قال أبو العتاهية.