09 نوفمبر 2024
أبعد من صالح بن يوسف
قد يرى بعض قرّاء هذه الكلمات فائضا من هناءة البال عند كاتبها، لانشغالها بقضية اغتيال زعيمٍ سياسيٍّ تونسي قبل 58 عاما، وهي تعتبرُه مطلبا محقّا ذلك الذي تجهر به عائلة الضحية، أن تتضح حقائق الجريمة كاملةً، وتعتذر الدولة التونسية رسميا عن ارتكابها، وتتم العدالة غير منقوصة، كما أعلنت العائلة عن ذلك مجدّدا في أثناء نظر محكمةٍ مختصّةٍ بالقضية، في جلسةٍ أولى، أول من أمس، في العاصمة التونسية. ومبعث قولٍ كهذا أن نقصان العدالة فادحٌ بشأن جرائم إزهاق أرواحٍ بلا عدد، تقترفها حكوماتٌ عربيةٌ كيفما اتفق، في جرائم ماثلةٍ قدّامنا في جغرافياتٍ عربيةٍ غير قليلة، ما قد يجعل اكتراثا بواقعة قتل الزعيم التونسي، صالح بن يوسف، في غرفةٍ في فندقٍ في فرانكفورت، قبل أزيد من نصف قرن، شاهدا على سعةٍ في مزاجٍ رائق، أو أقلّه انصرافا عما هو أدعى للانتباه إليه.
.. ولكن الأمر لا يُؤخذ أبدا على هذا النحو. ببساطةٍ، لأن تونس، على الرغم مما تشهده من مشكلاتٍ غير هيّنة الحدّة، وأوضاعٍ مشحونةٍ بما لا يسرّ ولا يُرضي، تعبُر، منذ شقّت طريقا صعبا في مسار ثورتها (المجيدة بحسب عزمي بشارة)، في تمرينٍ ديمقراطي، يواجه تحدّيات ظرفٍ اقتصاديٍّ مقلق، ويشتبك مع قوى الثورة المضادة المحلية والخارجية، ولكنه، في الوقت نفسه، يختبر ممكنات نجاحِه وصلاحِه بوسائل حضاريةٍ ومتقدّمة، منها تلك التجربة الاستثنائية عربيا (تشابهها تجربة "الإنصاف والمصالحة" في المغرب)، في مسألة العدالة الانتقالية، عندما فتحت هيئة الحقيقة والكرامة ملفاتٍ سوداءَ من ماضي تونس، من أجل حسم ملابساتها، وإنصاف الضحايا في غضونها، وتعيين كل المسؤوليات بشأنها، صدورا عن أن الذهاب إلى المستقبل المُشتهى، والذي تنعم به البلاد بمنزلةٍ أوفى من الديمقراطية، يتطلّب المكاشفة مع الماضي، بلا حساباتٍ ولا حساسيات.
ولأن الأمر متعلقٌ، بداهةً، ببلدٍ عربي، في رهان نخبته وشعبه على بلوغ أفقٍ ديمقراطيٍّ أوسع، لا يصير الحديثُ في مسألة صالح بن يوسف تزجية وقتٍ يسلّي بها صائمٌ نفسه، وإنما هو في صميم الراهن العربي المثقل بجرائم التمويت المهولة، بالصواريخ العمياء على قرى اليمن وبلداته، أو بمنشارٍ يُجهز على جمال خاشقجي، أو بغيرهما مما يتوسلّه طغاةٌ ومستبدّون ومتورّمون بأوهام القوة، في سورية وليبيا ومصر، أمثلة. ولذلك، ليست القصة "نبشا" لأحقادٍ قديمة، ولا إثارةً لفتنةٍ نائمةٍ، ولا تقصّدا للطعن في الحبيب بورقيبة، الزعيم الباقي في أفئدة التونسيين، عندما يتم اتهامُه بالمسؤولية عن قتل رفيقه، ثم خصمه السياسي العنيد، صالح بن يوسف. والتجوالُ في أرشيف الذي جرى بين الرجلين نافعٌ في قراءة مقطعٍ من تاريخ الأمة، وفي درس تجربة مناضلي الاستقلال وبناء الدولة العربية الحديثة. وليس في وسع صاحب هذه الكلمات أن يخوض في هذا الأرشيف، ولا في مقدرتِه أن يكون يوسفيا أو بورقيبيا، وإنما تلحّ سطورُه هذه على الانتباه إلى الأهمية الخاصّة التي تشتمل عليها القضية المنظورة في محكمةٍ تونسية، حيث نيابةٌ عامة وادّعاء ومحامون ومدّعون، بينما الذين يتردّد أنهم متّهمون في القضية هم في دار البقاء منذ سنوات (هناك آخر حيّ يرزق، بحسب تقارير صحافية)، وإذ استفاض نجل بن يوسف، وكذا أنصارٌ لهواه السياسي (العروبي المغاربي)، ودعاةٌ إلى تظهير الحقيقة، وإلى تنظيف الماضي من أي قداسةٍ وأساطير، إذ استفاض هؤلاء وغيرُهم، في أجواء الجلسة الأولى للمحكمة، في طرح ما يرونها أسبابا وجيهةً لاتهام بورقيبة ومساعدين له بالجريمة، ولوجوب اعتبار ما تم تدبيرُه قبل نحو ستة عقود جريمة دولة، فإن المرتقب أن تتوالى فصولٌ مثيرةٌ في هذا الملف مع انعقاد الجلسة الثانية للمحكمة في أكتوبر/ تشرين الأول المقبل.
ربما ثمّة متشابهاتٌ، ولو سطحية، بين قصة بورقيبة و"الحية الرقطاء"، كما كان ينعت بن يوسف، وما جرى بين جمال عبد الناصر ومحمد نجيب في مصر، وبين بومدين وبن بلّة في الجزائر، وبين الحسن الثاني والمهدي بن بركة في المغرب، ربما. ولكن الجديد أن تونس، عندما تنفتح على ماضيها، بمكاشفةٍ شجاعةٍ، بشأن ما جرى بين خياريْن ومنظوريْن، سياسيين وثقافيين، وقبل ذلك بشأن مطالعة تاريخ البلاد بعيونٍ أوسع، فإنما تلبّي حاجةً، ألحّت عليها هيئة الحقيقة والكرامة، موجزُها أن من استحقاقات تنزيل المواطنة والمساواة في الراهن أن تتنزّلا أيضا فيما يتعلق بماضٍ موروثٍ مشوّش.. ومتعبٍ للذاكرة الوطنية.
ولأن الأمر متعلقٌ، بداهةً، ببلدٍ عربي، في رهان نخبته وشعبه على بلوغ أفقٍ ديمقراطيٍّ أوسع، لا يصير الحديثُ في مسألة صالح بن يوسف تزجية وقتٍ يسلّي بها صائمٌ نفسه، وإنما هو في صميم الراهن العربي المثقل بجرائم التمويت المهولة، بالصواريخ العمياء على قرى اليمن وبلداته، أو بمنشارٍ يُجهز على جمال خاشقجي، أو بغيرهما مما يتوسلّه طغاةٌ ومستبدّون ومتورّمون بأوهام القوة، في سورية وليبيا ومصر، أمثلة. ولذلك، ليست القصة "نبشا" لأحقادٍ قديمة، ولا إثارةً لفتنةٍ نائمةٍ، ولا تقصّدا للطعن في الحبيب بورقيبة، الزعيم الباقي في أفئدة التونسيين، عندما يتم اتهامُه بالمسؤولية عن قتل رفيقه، ثم خصمه السياسي العنيد، صالح بن يوسف. والتجوالُ في أرشيف الذي جرى بين الرجلين نافعٌ في قراءة مقطعٍ من تاريخ الأمة، وفي درس تجربة مناضلي الاستقلال وبناء الدولة العربية الحديثة. وليس في وسع صاحب هذه الكلمات أن يخوض في هذا الأرشيف، ولا في مقدرتِه أن يكون يوسفيا أو بورقيبيا، وإنما تلحّ سطورُه هذه على الانتباه إلى الأهمية الخاصّة التي تشتمل عليها القضية المنظورة في محكمةٍ تونسية، حيث نيابةٌ عامة وادّعاء ومحامون ومدّعون، بينما الذين يتردّد أنهم متّهمون في القضية هم في دار البقاء منذ سنوات (هناك آخر حيّ يرزق، بحسب تقارير صحافية)، وإذ استفاض نجل بن يوسف، وكذا أنصارٌ لهواه السياسي (العروبي المغاربي)، ودعاةٌ إلى تظهير الحقيقة، وإلى تنظيف الماضي من أي قداسةٍ وأساطير، إذ استفاض هؤلاء وغيرُهم، في أجواء الجلسة الأولى للمحكمة، في طرح ما يرونها أسبابا وجيهةً لاتهام بورقيبة ومساعدين له بالجريمة، ولوجوب اعتبار ما تم تدبيرُه قبل نحو ستة عقود جريمة دولة، فإن المرتقب أن تتوالى فصولٌ مثيرةٌ في هذا الملف مع انعقاد الجلسة الثانية للمحكمة في أكتوبر/ تشرين الأول المقبل.
ربما ثمّة متشابهاتٌ، ولو سطحية، بين قصة بورقيبة و"الحية الرقطاء"، كما كان ينعت بن يوسف، وما جرى بين جمال عبد الناصر ومحمد نجيب في مصر، وبين بومدين وبن بلّة في الجزائر، وبين الحسن الثاني والمهدي بن بركة في المغرب، ربما. ولكن الجديد أن تونس، عندما تنفتح على ماضيها، بمكاشفةٍ شجاعةٍ، بشأن ما جرى بين خياريْن ومنظوريْن، سياسيين وثقافيين، وقبل ذلك بشأن مطالعة تاريخ البلاد بعيونٍ أوسع، فإنما تلبّي حاجةً، ألحّت عليها هيئة الحقيقة والكرامة، موجزُها أن من استحقاقات تنزيل المواطنة والمساواة في الراهن أن تتنزّلا أيضا فيما يتعلق بماضٍ موروثٍ مشوّش.. ومتعبٍ للذاكرة الوطنية.