09 نوفمبر 2024
أبعد من فستان ممثلة
مرّت خمسُ سنواتٍ على إطاحة الجيش المصري الرئيس الإسلامي، محمد مرسي، ولكن الأصولية الإسلامية ما زالت قويةً في المجتمع المصري، بدليل ما حدث مع الممثلة رانيا يوسف. .. هذا بالضبط ما أوردته صحيفة واشنطن بوست الأميركية، في صياغتها الخبر عن قضية ارتداء الممثلة المعروفة (غير النجمة) فستانا فاضحا في حفل اختتام مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، الخميس الماضي، في سلوكٍ أثار ضجيجا ما زال يتفاعل، أصدرت، في غضونه، نقابة الممثلين المصريين، بيانا قرّع الممثلة المذكورة، ودانها على مسلكها هذا، وإنْ تضامنت لاحقا معها بعد قبول دعوى محامٍ ضدها، بتهمة "الفعل العلني الفاضح والتحريض على الفجور، و..."، وحدّدت النيابة العامة 21 الشهر المقبل (يناير/ كانون الثاني) موعد أولى جلسات المحاكمة. وذلك كله فيما اعتذرت رانيا يوسف (44 عاما) لكل أسرةٍ مصريةٍ أغضبها الفستان الذي من الممكن أن يكون "قد خانها التقدير في ارتدائها له أول مرة"، بحسب قولها، غير أن السيدة يوسف راحت، في واحدةٍ من مقابلاتٍ تلفزيونيةٍ كثيرةٍ معها، تلوم المصوّرين الذين تعمّدت كاميراتهم التقاط الصور لها من زوايا ومواضع متعمّدة، وهي الصور التي انتشرت في "السوشيال ميديا" التي كان لها التأثير المهول في إحداث الزوبعة الراهنة بشـأن الممثلة التي عُرفت في أفلامها بتأديتها أدوارا أنثويةً ساخنة (أو جريئة؟) إلى حدٍّ ما.
تجاوزت القصة حدودها الخاصة بمسلكٍ تافهٍ من ممثلةٍ في سهرةٍ أمام الأضواء، بل صارت قضيةً يُخاض في خصوصها جدلٌ (وثرثراتٌ) بشأن الحريات الشخصية وسقوفها، وسلطة الميديا. وأيضا بشأن إثارة زوابع تُشغل الرأي العام، عساها تُبعده عن قضايا المجتمع والبلد، الجادّة والملحّة. ومن مظاهر تدلّ على رداءةٍ باهظةٍ في الراهن المصري (والعربي عموما) أن كثيرين أرادوا جرّنا، من مسألة فستان رانيا يوسف إلى تقسيم الناس متخلفين ومتحضرين. وبحسب هؤلاء، فإنك إذا لم تساند هذه الممثلة (الجيّدة في أدائها والحق يُقال) فإنك تُحابي الأصوليين والإخوانيين، لأن تقدّميتك، وقناعتك بوجوب تمدين مجتمعاتنا العربية وتحديثها، غيرُ حقيقيتين تماما. وفي الضفة الأخرى، وجد بعضٌ ثانٍ أن رانيا يوسف أرادت نشر الرذيلة، فتجب معاقبتُها بموجب قوانين معمولٌ بها لا تجيز الأعمال الفاضحة وخدش الحياء. وعندما تقرأ ما تضمّنه بلاغ المحامي الذي تقدّم بالدعوى القضائية ضد الممثلة (ثمّة دعاوى أخرى في الطريق، كما قرأنا)، فإنك ستُدهش من الشر المستطير الذي تريد أن تُشيعه هذه المرأة (أمٌّ لشابتين بالمناسبة) في الأمة، من قبيل "إغواء القصّر".
يجوز القول إنها حكايةٌ تسلّي الصحافة والمواقع الإلكترونية وميديا التواصل الاجتماعي بعض الوقت، قبل أن تستجدّ حكايةٌ أخرى تُزيحها، فلا داعي للانشغال كثيرا بها، وإنْ اكترثت بالفستان صحفٌ في مغارب الأرض ومشارقها. هذا افتراضٌ صحيحٌ، لكن تناول وسائط إعلام أميركية وأوروبية، وبعضُها وازن، القصة بأنفاس استشراقٍ تقليدي، يجعلنا، نحن العرب، في موضع المتخلفين حتما، لا لشيءٍ إلا لأن أغلبيّتنا مسلمون.. هذا هو الإيحاء المُراد في صياغة صحيفة ديلي ميل البريطانية خبر الفستان، في إشارتها إلى غضب المجتمع المصري من رانيا يوسف، وهو "المجتمع المحافظ ذو الأغلبية المسلمة"، بحسب ما حرصت على التذكير به. واستدعت الصحيفة أيضا حبس الروائي المصري، أحمد ناجي، قبل عامين، بعد قضيةٍ رفعت ضده، بسبب ما اشتمل عليه نصٌّ له نشرته صحيفة مصرية، رأته المحكمة خادشا للحياء العام. وهذه "واشنطن بوست"، والتي لا تتوقّف عن النقد الحاد لنظام عبد الفتاح السيسي وبوليسيّته، وشناعة استبداده، لا تلحظ في غضب المصريين من فعلة رانيا يوسف سوى تجذّرٍ للأصولية الإسلامية فيه، على الرغم من سنواتٍ مرّت على إطاحة محمد مرسي.
أيّ صورةٍ بائسةٍ هناك، إذن، لأمة المسلمين والمجتمعات العربية، عندما يكون رفضُ فستانٍ معيب، وغير أخلاقي، في مناسبةٍ مهرجانيةٍ، فنيةٍ، يتم بث الصور منها أمام ملايين الناس، لا ينمّ إلا عن أصوليةٍ مستحكمةٍ فينا!