"أحجية إدمون عَمران المالح"
واكبت صحافاتٌ عربيةٌ واقعة إعلان المغرب، أخيرا، "استئناف" علاقاته الرسمية مع إسرائيل، بإعادة تدوير موضوعاتٍ عن اليهود المغاربة في الدولة العبرية، بالنشر عن أعدادهم وعاداتهم، وهجراتهم إلى هناك، سيما وأن مسؤولين وسياسيين وإعلاميين مغاربة استطابوا حديثا متزيّدا، غير دقيق، عن "جاليةٍ" مغربيةٍ يهوديةٍ في إسرائيل، وافترى بعضُهم في قولهم إن المغرب قادرٌ على التأثير على إسرائيل، بفعل وجود هؤلاء هناك، والذين يصل عددهم، بحسب وزير مغربي سابق، إلى مليون، فيما هم، بحسب دبلوماسي مغربي راهن، سبعمائة، بينما الحقيقة إنهم أقل من خمسمائة ألف. وإذا كان للصحافة أن تخوض في هذا الأمر، وكذا ناس السياسة، فإن رواية "أحجية إدمون عَمران المالح" (أنطوان هاشيت، بيروت، 2020) للمغربي محمد سعيد احجيوج (1982) التفتت إليه، بأنفاسٍ مثيرةٍ من التجريب في بنائها وفي لعبتها الحكائية، بلغت فيه مدىً جذّابا، وحاذقا لا ريب. وعلى قِصرها (94 صفحة)، يسّرت الكثافة العالية فيها إتْيانها على غير مسألة، بكيفيةٍ راوغت فيها بين المتخيّل والواقعي، بين اللحظي والماضي، بين الحلمي والمتذكّر والكابوسي والكافكاوي، بين تداخل أصواتٍ ورواة، بين الحقيقي والزائف.
يرمي احجيوج إلى قارئ روايته أحجيةً، كما يُفصح العنوان، ثم يدخُل هذا القارئ إليها من عتبة قولةٍ من عبد الفتاح كيليطو "ينبغي التيه ليتحقّق الوصول"، ما يعني أنه سيتوه في أحجيةٍ ستُربك سفرَه في وقائع النص الذي يغادر به من زمنٍ راهن إلى آخر ماض، ومن واقعةٍ هنا إلى أخرى هناك، في مداورةٍ لا يُنجيه من مكابدةٍ فيها سوى الإمتاع المتحقّق، إلى حد كبير، في القصّ الذي ينسلّ من الرواية التي يقرأ إلى روايةٍ أخرى تنكتب فيها، يتحدّث عنها الراوي. ولمّا كانت الأحجية متعلقةً بإدمون عمران المالح، فإن الكاتب المغربي الراحل (1917 - 2010)، صاحب هذا الاسم، يبقى في خواطرك وأنت تقرأ، وستلحّ عليك أسئلةٌ عمّا يتّصل به في الرواية وما لا يتّصل به، لتجد نفسَك في متاهةٍ بين الصحيح والخاطئ. الراوي هو عمران، فيما اسم بطل الرواية التي يكتبها إدمون. وخطّان للسرد متوازيان ومتقاطعان، يلتقيان ويفترقان، واحدٌ عن عمران الذي يعمل محرّرا ثقافيا عن الإصدارات والكتب في صحيفة لوموند، وعضو في لجنة تحكيم لجائزةٍ فرنسيةٍ في الرواية، يغريه ناشرٌ يهودي برشوة كبرى مقابل تمرير روايةٍ بعينها إلى القائمة القصيرة. وخط السرد الثاني عن تهجير المغاربة اليهود إلى إسرائيل، وفي الأثناء غرق سفينة كانت تقلّ عشرات منهم، بعد أن نقلت قبلهم عديدين، في مطالع الستينيات، يكون الصحافي عمران ممن كشفوا قصّتها (للمخابرات المصرية!).
لن تنجح هذه المقالة في لملمة التفاصيل المبعثرة في الرواية اللافتة، ولا في "تلخيص" وقائعها التي توزّعت بين محكياتٍ رئيسية ومركزية، وأخرى فرعيةٍ ومتوالدة، ولا في القبض على حبكتها المستترة والأخرى الظاهرة، (من مشاغل الرواية أيضا فن الرواية نفسه وكتابتها!)، غير أن في الوسع أن تلفت إلى أن المغربي اليهودي، العجوز عمران، عندما يحسّ، وهو في مستشفىً للأمراض النفسية، أن دماغه قد تحوّل إلى"اسفنجةٍ مليئةٍ بالثقوب"، يحكي عن "فخرٍ" بإسرائيل كان يعشّش في وجدانه "كما كل أطفال اليهود بست سنوات في المغرب"، ثم تلاشى منذ اليوم الأول لوصوله إلى أرض إسرائيل، حين وجد نفسَه في مدرسةٍ دينيةٍ متزمتة. وفي مقطعٍ تال، يحكي أيضا عن ذلك الفخر "بانتصارنا" في حرب الأيام الستة، ثم "ضاقت عنّا [إسرائيل] بعد سنواتٍ قليلة، حين نخر فيها الفساد، وساد فيها الطمع، ..".
لا داعي للظن أن رواية محمد سعيد احجيوج هجائيةٌ ضد إسرائيل، ومعنيةٌ بزيف دعاوى دولة الاحتلال التي استقدمت مخابراتُها، في زمن مضى، آلافا من المغاربة اليهود من بلدهم. لا داعي لذلك، لأنه غير صحيح، لا الرواية تقوله، فهي لا تقول إلا ما يخصّ بطلها (من هو؟)، ولا الواقع ينطق به. وأمّا وقد صار عمران (كما يعترف بحسب ما يتذكّر) يكره عبارة "اليهود المغاربة" التي يكرّرها فرانز (الناشر صاحب عرض الرشوة بتصعيد روايةٍ إلى القائمة القصيرة)، ويسأل عن الخطأ في عبارة "المغاربة اليهود"، فإن كاتب هذه المقالة لا ينسى تبرّم إدمون عمران المالح (أو المليح كما عهدته سنوات) من إتيان العنوان الفرعي لمقابلةٍ أجريتُها معه (وحدنا في منزل محمد برّادة في الرباط)، كما نُشرت في صحيفة الحياة اللندنية (1994)، على مغربيّته ويهوديّته، إذ ودّ الاكتفاء بتعريفِه مغربيا، غير أنه استحسن العنوان الرئيسي "ما زال ضروريا أن نحمي أنفسنا من إسرائيل" .. قال لي هذا الكاتب الذي عادى إسرائيل بشدة ولم يزُرها، إن نزوح يهودٍ مغاربةٍ كثيرين إلى إسرائيل "كارثة في التاريخ اليهودي". .. مقاطعُ من حكاية هؤلاء مبثوثةٌ في روايةٍ اجتهد فيها كاتبُها المغربي الشاب كثيرا.