أخاف أن يفوز عربي بجائزة نوبل

20 أكتوبر 2021

ميدالية جائزة نوبل بعد تهئيتها في السويد (29/10/2019/فرانس برس)

+ الخط -

في حمأة الضجيج الذي يعلو صخبُه كل عام مع اقتراب موعد الإعلان عن جائزة نوبل، الذي ازدادت فورته وعلا صخبُه وامتدّ موجه، حتى كاد أن يتحوّل إلى إعصار مع تفاقم ظاهرة مواقع التواصل الاجتماعي، يحضُر سؤالٌ ربما يصدّع الرأس قليلًا، من ضمن أسئلة أخرى تطرحها المناسبة، سؤال عن دور الأدب في السلام، طالما تُمنح الجائزة، من ضمن ما تُمنح، للأدباء وللناشطين في مضمار السلام أيضًا. وسؤال آخر لا يصدّع الرأس فحسب، بل يشعل بركانًا من المشاعر المضطربة في النفس، تدفع إلى الخوف من فوز أديبٍ عربيٍّ بشكل عام، وسوريّ بشكل خاص، بهذه الجائزة، ما يترتب عليه من انقسام شاقولي في جهنم المنطقة العربية، وفي سورية خصوصًا.

ومثلما اعتدنا، نحن جمهور هذا الوطن مترامي الأطراف، العربي، فإن مفاجأتنا تكون كل مرّة على صعيدين: خيبة أملنا في منحها لأديب عربي بعد نجيب محفوظ عام 1988. وجهلنا غالبًا بأسماء الأدباء الذين ترسو الجائزة عليهم بناء على منتجهم الأدبي وما حقّق، بحسب لجنة الجائزة، على الصعيد الإنساني بما حمّل منتجه من قيم إنسانية، كما اليوم مع الفائز بها عبد الرزاق قرنح، إلّا على مستوى نخبةٍ قليلةٍ متابعةٍ ومختصّة، وتقرأ بلغاتٍ أخرى غير لغتنا العربية، خصوصا أن معظم الذين نالوا الجائزة من أدباء، روائيين كانوا أم شعراء، كانت أعمالهم قد تُرجمت قبلها إلى لغاتٍ أخرى، الإنكليزية أو الفرنسية أو الإسبانية أو الألمانية وغيرها، أو كتبوا بإحدى هذه اللغات، ما ينجم عنه جهل غالبية الشعوب العربية الشائع بالمُنتج الثقافي لمعظم الفائزين، عدا واحدا من العوامل المهمة، وهو تردّي مستوى القراءة وتدنّي الاهتمام بالشؤون الثقافية لدى شعوبنا الغارقة في مشكلاتٍ من المفترض أن العالم تجاوزها ومشى في طريق الحضارة الإنسانية.

محزنٌ ومؤسفٌ غياب الشعور بالانتماء إلى الوطن، أو تدنّيه إلى مستوياتٍ لا تصنع فرقاً في أي أمر

أمّا موضوع السلام والإضافة التي أضافها أو يمكن أن يضيفها الأدباء الذين فازوا أو مرشّحون للفوز، من خلال منتجهم الثقافي، ومواقفهم المعلنة من قضايا الشعوب، التي هي غالبًا محقّة، فهذه قضية إشكالية، ويلزمها البحث المتبصّر والصابر في حقلٍ واسعٍ يضمّ أولئك الأدباء، وتتطلّب، قبل كل شيء، الاتفاق على معايير السلام في عالمٍ يمور بالحروب والانتهاكات والظلم والسيطرة وصناعة القيم والمفاهيم، والكيل بمكاييل مطّاطة أو قابلة للمناورة والمداورة، ولبس القوالب كيفما جاءت، وكائنًا من يكون الذي فصّلها.

ما يهمّ هذه المقالة سؤال الاحتمالات فيما لو فاز بها أديب عربي، ألن تشتعل ثوراتٌ أخرى في منطقتنا، لن تكون الأنظمة بريئةً منها، فكيف بالشعوب التي أظهرت العقود الأخيرة كم هي مغيّبةٌ عن اللحظة، وغارقة في مشكلاتها الحارقة؟ المنطقة العربية التي لم تتفق أنظمتها على مشروع مستقبلي، حتى لو لم يتعدَّ عدد المشتركين فيه الثلاثة، فكيف لو كان مشروعًا جامعًا؟ أمّا بالنسبة إلى سورية فهي مثالٌ يحقُّ لي، أنا السورية، أن أعلن عن هواجسي نحوه، انطلاقًا مما كشفته السنوات العشر المنصرمة من أمراضٍ متجذّرة ضاربة في عمق الوعي الجمعي، وعاملة أسافينها في النفوس والأرواح، ليفاجئنا هذا الجنوح القاتل نحو الالتحام بجسد القبيلة والعشيرة والطائفة والدين، من دون الوعي بالانتماء إلى وطنٍ يضم الجميع. لا يمكن إغفال السياسة، فهي تمدّ أصابعها وتبصم على كل شيءٍ في الحياة، لكن السياسة بمعناها الحقيقي الناظم لحياة الشعوب بعيدة كل البعد عن أفق وعينا. نحن شعوبٌ لا تعرف شيئًا عن السياسة، نركن إلى الاستنقاع الذي تبرع أنظمتنا في تكريسه وتخديرنا بدفئه، وأول شيء تتطلبه السياسة كي يترسّخ استقرار الأوطان أو الدول أن تكون متاحة للجميع، وأن تكون هناك معارضةٌ فاعلة، فالمعارضة هي ميزان السياسة، وليست القوى التي تحظى بالغالبية. المعارضة هي التي تكبح جنوح الأنظمة الحاكمة نحو التطرّف أو السياسات غير الصائبة، أو جموحها، هذا في الدول التي تتمتع بأنظمةٍ ديمقراطية، يتم فيها تداول السلطة بموجب خياراتٍ شعبيةٍ تقرّها صناديق الاقتراع، تكرّسَ فيها وعي شعبي بمفهوم السياسة ومفهوم الديمقراطية وثقة بالدستور والقوانين. وبناء عليه، كل إنجازٍ يسجّله أي مواطنٍ ينتمي إلى هذه الدولة يتلقفه الرأي العام وضمير الشعب على أنه إنجاز يخصّهم، فيبتهجون به، على المستويين، الرسمي والشعبي.

يلزم مجتمعاتنا كثير من الاشتغال والأخذ بيدها حتى تصل إلى العتبات الأولى للدخول في العصر

بالنسبة لنا، محزن ومؤسف غياب الشعور بالانتماء إلى الوطن، أو تدنّيه إلى مستوياتٍ لا تصنع فرقًا في أي أمر، أمام الانتماءات الضيقة والهويات المنتمية إلى أزمنة ما قبل الدول، خصوصا بمفهومها الحديث، وهذا أمرٌ بدا جليًّا منذ البدايات في ما يخص الانتفاضة السورية، وكان سببًا مكينًا في انحراف الانتفاضة الرامية إلى ثورةٍ حقيقيةٍ تقلب فيها الواقع بكل أركانه المعيقة لتطور الشعوب والدول، وتحوّلُها إلى حربٍ مزّقت المجتمع وشتّتت الشعب وقسّمت الوطن، وخرّبت الإنسان قبل كل شيء، ولم ينجُ منها المثقفون أيضًا، حتى إن المعارك الحامية في ما بينهم قد ازدهرت من على المنابر جميعها، بين معارك صغيرة وأخرى كبيرة، كادت أن تنسف كل ما راكم كل فريقٍ من منتجٍ ثقافيٍّ قبل الحراك على قاعدة الانتماءات الضيقة والاستقطاب السياسي الذي انزلقوا إليه، غافلين عن أهم شرطٍ على المثقف أن يتمسّك به، خصوصا في مجال الأدب، هو التمنّع ضد الاستقطاب السياسي، والانحياز إلى قضايا الشعوب، وهذا في الأساس موقفٌ أخلاقيٌّ يُنتظر من الأديب أن يمارسه.

ماذا لو فاز أديب سوري بجائزة نوبل، وقد جرت العادة أن يُطرح اسم الشاعر السوري أدونيس كلّ عام، وقد حقّق حضورًا عالميًّا في المشهد الثقافي منذ سنوات طويلة، بما قدّمه من منتج ثري، بل جرى أيضًا تأكيد أنه الفائز بها في كل موسم، أقلّه في العقدين الأخيرين؟ ألن يكون هذا، فيما لو حصل، سببًا إضافيًّا في استمرار الزلزال السوري الذي لم يزل نشطًا إلى اليوم؟ أساسًا المعركة تبدأ قبل إعلان النتائج بأسابيع، ويشتدّ صخبُها وتتكاثف نيرانها كلما اقترب الموعد، وتصبح قضية فوزه، أو نكران الجائزة عليه، قضيةً خلافيةً شرسةً تفتح أبوابًا عريضة على كل أسباب الصراع السابقة. والمشكلة أن شريحة واسعة لم تقرأ لأدونيس أو غيره، فالدول المتقدّمة هي التي تعتني بالقراءة عنصرا أساسيا في بناء الفرد، فيبدأ التأهيل لها أسلوب حياة منذ الطفولة الباكرة، منذ دور الحضانة، لينمو هذا النشاط ويُعزّز هذا الهدف في الصفوف المتقدّمة، بينما في مدارسنا تراجعت المكتبات المدرسية حتى انعدمت، وصولًا إلى الجامعات التي تتميز بضحالة مكتباتها. أما الخلاف بالنسبة لأدونيس فقد بدأ باكرًا في عمر الأزمة، بسبب تصريحاته بشأن الحراك وموقفه منه، والرسالة التي وجهها إلى الرئيس السوري في العام 2011.

 أخاف من فوز واحد من بيننا بجائزة نوبل، كي لا يُصبّ وقودٌ جديد على نيراننا التي لم تنطفئ

يلزم مجتمعاتنا كثير من الاشتغال والأخذ بيدها حتى تصل إلى العتبات الأولى للدخول في العصر، فالأنظمة الماسكة بمصير شعوبها تشلّ الحياة كي تبقى الشعوب بحاجةٍ دائمةٍ إليها، تمسك بيدها وتوديها إلى حيث هي تريد، لا الشعوب. ونحن لدينا أنظمة وحيدة شمولية، تستأثر بالحكم، لا تعترف بالتعدّدية ولا بضرورة المعارضة، بل لا تسمح بها. لذلك تعثرت وسقطت المعارضات الطارئة التي ظهرت على هامش الثورات، نظرًا إلى انعدام خبرتها السياسية الفعلية في المجال والزمن اللذين كان من الضروري حيازتهما، ولا تُفسح مجالًا لمؤسسات مجتمع مدني بأن تقوم ويكون لها دور فاعل في النهوض بالمجتمع من استنقاعه ودفعه في طريق صنع حياته. لذلك كل قضية من المفترض أن تعني الجميع تنقلب إلى قضية خلافية، تُدار حولها وبسببها المعارك، فلو فاز أدونيس أو غيره بجائزة، نوبل أو غيرها، لن يكون هذا الفوز في خانة الثيمات التي يمكن أن يفتخر الوطن بها، بعد أن صار مفهومه غائبًا، وصار الوطن مثل طفل دائرة الطباشير القوقازية، كل جهة تدّعي أمومتها له وأحقيّتها به، بينما الوطن يضيع، والثقافة تتردّى، والمثقفون، في غالبيتهم، يعجزون عن صنع منظومتهم الثقافية المترفعة عن الاستقطابات، الرامية إلى تكوين جسد ثقافي إبداعي، يمكن أن يضاهي المنظومات العالمية، ويعرف كيف يجمع الشعوب حوله، ويُنتج رموزًا تفتخر بها، وجوائز تستحقها، بدلًا من هذه المعارك التي تحرق أكبر منتج ثقافي لدى الشعب. وستكون الحرب الدائرة على هامش هذا الفوز ربما سببًا أساسيًّا من أسباب انكفاء العالم عنّا، وعن الاهتمام بقضايانا التي لم تعد تحتل مقدّمات نشرات الأخبار منذ مدة، عدا ضحالة الاهتمام بترجمة منجزنا الإبداعي، وعدم اكتراثنا نحن أصلًا بتنشيط هذا النشاط، أو مواكبة ما يُنجز في العالم.

لهذا أستطيع القول: إنني كفرد ينتمي إلى هذه البلاد التي كانت تسمى سورية، وإلى هذا الوطن الذي يسمى عربيًّا، أخاف من فوز واحد من بيننا بجائزة نوبل، كي لا يُصبّ وقودٌ جديد على نيراننا التي لم تنطفئ، وليست مرشّحة للانطفاء، ما دام أن حياتنا ما زالت تمعن في يباسها في درب تحوّلنا الجماعي إلى حطبٍ لهذه النيران التي كلما اتقدت قالت: "هل من مزيد"؟