أزمة دستورية أم فشل النظام في الصومال؟
ما أن تُطوى صفحة أزمة سياسية في الصومال، حتى تُفتح أخرى أكثر تعقيداً من سابقاتها، فالصراعات السياسية والأمنية في هذا البلد الأفريقي العربي متكرّرة ومتجددة منذ عقود، بسبب هشاشة نظام الحكم من جهة، وغياب الأطر القانونية والتنظيمية في فصل الصلاحيات بين مهام كبار مسؤولي الدولة من جهة ثانية، وهو ما يشكّل التباساً وغموضاً في تفسير واجبات رئيس الجمهورية ورئيس حكومته. وقد ولدت التناقضات الدستورية هذه مع ميلاد الدستور الصومالي المؤقت الذي بدأت كتابته عام 2012، ولم يخرج إلى النور بعد، ما يُحدث جدلية دستورية وخلافات سياسية بين كبار رجال الدولة. ومع انتهاء فترة البرلمان الحالي في ديسمبر/كانون الأول الماضي، يشهد الصومال اليوم معضلةً دستورية عميقة، تحولت إلى صراع صلاحيات بين الرئيس الصومالي محمد عبدالله فرماجو ورئيس الوزراء محمد حسين روبلي، والتي تهدّد عملية التحول الديمقراطي الأعرج أصلاً في البلاد، وتنسف منجزات بعثة الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي الأمنية والتنموية في الصومال.
انفجر بركان الخلاف السياسي في مقديشو حالياً، عقب اختفاء ضابطة، تدعى إكرام تهليل، كانت تعمل في قسم الأمن السيبراني في المخابرات الصومالية، في يونيو/حزيران الماضي، وقيل إن حركة الشباب الإسلامية أعدمتها بعد اختطافها من العاصمة، حسب الرواية الرسمية، لكن الحركة تبرّأت من دمها لاحقاً، الأمر الذي أشعل فتيل النار بين الشارع الصومالي والحكومة الفيدرالية، ليقطع رئيس الحكومة، محمد حسين روبلي، صمته الطويل ثلاثة أشهر، ويمهل مدير جهاز المخابرات السابق، فهد ياسين، أربعة وعشرين ساعة لتقديم إفاداتٍ دقيقة، عن اختفاء الضابطة، وليعلن لاحقاً عن عزل مدير المخابرات، وتكليف خلفٍ له. لكن الرئيس الصومالي، محمد عبدالله فرماجو، عارض قرار رئيس حكومته، ووصفه بأنه مخالف الدستور. ثم لم ينته تراشق إصدار المراسيم والقرارات سريعاً، بل انتقلت أزمة تضارب الصلاحيات بين أقوى رجلين في الدولة إلى دائرة الأجهزة الأمنية، بعد أن أقال رئيس الوزراء وزير الأمن المقرّب من الرئيس فرماجو، ليعلن هو الآخر بطلان قرار رئيس الحكومة، ما يُنذر باستفحال الخلافات السياسية إلى صراع مسلح بين الأجهزة الأمنية، لحسم الصراع لصالح طرف على حساب الآخر، وهو سيناريو إن تحقق سيصبح كارثياً، ويهدّد تنظيم انتخابات نيابية ورئاسية في مقديشو.
نقطة التأزم المعقدة التي تفاقم الجدل الدستوري انفجرت في توقيتٍ حرج للغاية، وبعد أن انتهت فترة البرلمان الذي كان عليه أن يحسم الخلافات
اللافت أن رئيس الوزراء يتمسّك بصلاحياته الدستورية، بحجّة أن الرئيس فرماجو كلفه، في إبريل/نيسان الماضي، بتولي ملف الأمن والانتخابات، وأن البرلمان أعطاه السلطة، بعد أن صوت بأغلبية ساحقة إبّان إلغاء فترة التمديد عامين إضافيين، والتي قوبلت بمعارضة شديدة من الوسط السياسي والاجتماعي، بينما الرئيس يبرّر موقفه بأنه أوكل لرئيس الحكومة ملف أمن الانتخابات فقط، وأن نقاطاً دستورية تمنحه حق إصدار القرارات، والتي بموجبها تتضمن إعفاء كبار مسؤولي الدولة وتكليفهم، وهو ما يشير إلى أن الدستور المحلي هو عين عاصفة الأزمة الدستورية راهناً، على الرغم من أن القانونيين يرون أن مسؤوليات رئيس الدولة وصلاحياته تنقضي مع انتهاء فترته الدستورية، وقد انقضت هذه في فبراير/شباط الماضي، ما يعني أن رئيس الحكومة، محمد حسين روبلي، يحق له إعفاء كبار مسؤولي الدولة وتعيينهم. وتبدو هذه الجدلية آخذة في التصاعد، إذا لم يتنازل طرفٌ ما لمصلحة البلاد والعباد.
نقطة التأزم المعقدة التي تفاقم الجدل الدستوري انفجرت في توقيتٍ حرج للغاية، وبعد أن انتهت فترة البرلمان الذي كان عليه أن يحسم هذه الخلافات، مثلما حدث مع رئيس الوزراء السابق، حسن علي خيري، الذي طرده البرلمان في يونيو/حزيران عام 2020، كما أنها جاءت وسط إجراءاتٍ متواصلةٍ ليل نهار لتنظيم الانتخابات النيابية في البلاد، وهو ما يخشاه مراقبون من أن توقف هذه الأزمة الراهنة مسار عملية الاستحقاق الانتخابي، فضلاً عن تداعياتها الأمنية ومخاوف بروز انقسامات عريضة داخل المؤسسة العسكرية، خصوصا بعد تعيين رئيس الوزراء نائبا معارضا للرئيس فرماجو وزيرا للأمن الفيدرالي، وهو ما يمكن أن يصبّ دلواً من الزيت على نار الأزمة الدستورية في البلاد، ويؤجّج صراعاً مسلحاً في تنفيذ قرار هذا الرئيس أو ذاك، بينما يترقّب الشارع الصومالي انفراجة للمعضلة الحالية، ويمنّي النفس بإمكانية نجاح جهود رأب الصدع وإخماد حرائق الخلافات بين الرئيسين.
غابت المحكمة الدستورية التي انهارت مع النظام العسكري مطلع التسعينيات ولم تنجح جهود إعادة تشغيلها
الواضح أن الأزمة الدستورية بين كبار الدولة ستبقى معضلة تحتاج إلى أن يتم تفكيكها نهائياً، من خلال معالجة المغالطات والتأويلات التي يشتمل عليها الدستور المؤقت، وهي مغالطاتٌ أشبه بقنبلة موقوتة تنفجر مع ميلاد كل حكومة جديدة من جهة، وتولد صراعاتٍ لا ترى أفقاً لنهايتها بين المركز والأطراف، وبين علاقة النظام الفيدرالي الهشّ والحكومة الفيدرالية الضعيفة، بحكم أن الدستور لا يعضد علاقة الأطراف بالمركز، وهذا ما يعكس أن أهم عنصرين لبناء أنظمة الحكم، المؤسسات والنظام الدستوري، يعانيان من ضعفٍ في بنيتهما المأسسية، فالمؤسسات الرسمية ينخر الفساد عظامها ويقتات أحشاءها ببطء، بينما الدستور يبقى ناقصاً غير مكتمل، إضافة إلى غياب المحكمة الدستورية التي انهارت مع النظام العسكري مطلع التسعينيات من القرن الماضي، ولم تنجح جهود إعادة تشغيلها، ما يفتح الباب لنظام صومالي يقبع في أتون الفشل السياسي والدستوري، لتجاوز مرحلة ما بعد انهيار الدولة، بل يعيد استنساخ تجربة فشل نظام الحكم التي أدخلته في متاهاتٍ سياسيةٍ وأمنيةٍ منذ عقود.
في النهاية، يبدو الأفق السياسي لنزع فتيل التوتر السياسي داخل البيت الحكومي الصومالي مشوشاً، بينما سياسة المواجهة الصفرية مع الآخر تتجدّد مع نهاية كل فترة حكم في البلاد، وتستنزف القدرات والجهود السياسية التي كان ينبغي تسخيرها لبناء مؤسساتٍ فاعلة غير فارغة المضمون. فبعد مرور ثلاثة عقود من فشل الدولة، يبدو أن الصومال لم يعد قادراً على النهوض وحده من قاع الأزمات، وما زال يحتاج إلى تدخل من جواره الإقليمي والدول العربية والبعثات الأممية والغربية، لفض نزاعاته المزمنة، حفاظاً على نظامٍ مقيم في الفشل، ولانتشاله من محاولات عودته إلى حمام الدم، بسبب عقمٍ في العقل الجمعي لقياداته، وذلك لإيجاد نظام سياسي مستمد من دستور غير قابل للتأويلات المفرطة، والتي تجعل الأقوى يفرض تفسيره نقاط الدستور على الآخرين، حتى وإن كانت مجرّد "خبط عشواء" يحرق نظام الدولة عن آخره.