أسلوبان للتعامل مع هذا الموقف الغربي
المكارثية الجديدة التي تلاحق المدافعين عن الرواية الفلسطينية في الغرب، وهذا الاصطفاف المخيف والأعمى وغير المسبوق من كبريات عواصمه وإعلامه إلى جانب إسرائيل وتبرير جرائمها، قد يبقيان في الذاكرة طويلاً جداً كحدثيْن يؤرَّخ بما قبلهما وما بعدهما. والحال أنّ السلوك الغربي ذاك، مع مليون تحفّظ على ألِف ولام التعميم، يجد في الطرف الآخر من العالم، من ناسنا، عرباً ومسلمين وفلسطينيين، متشوقين كثراً إلى الحروب الدينية والثقافية والحضارية، ممن يبشروننا منذ عقود بنفاق الغرب وبحقيقته منافقاً وصاحب ازدواجية معايير وانقلابياً على قيم التنوير والمساواة والعدالة والإنسانية والحداثة عندما يتعلق الأمر بشعوب من خارج المركزية الغربية. هكذا، كلما ارتفعت وتيرة العنصرية هناك والغرور وتقسيم الشعوب إلى أديان ودرجات ومراتب وطوابق من حيث القيمة والحق بالحياة والحرية ومقاومة الظلم، توالدت أجيال عنصرية عندنا لا تنقصها الحميّة أصلاً لمحاربة هذا "الغرب الكافر المنحلّ والاستعماري"، قبل الموقف الأخير من فلسطين وبعده.
ما يمارسه ويقوله مسؤولون غربيون ونخب أساسية في أوروبا وأميركا وكندا وأستراليا، لكن أيضاً في أماكن أخرى من العالم مثل الهند، لتبرير جرائم إسرائيل- وفصل العملية العسكرية التي نفذتها حركة حماس ومسلحون آخرون في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، بكل الأخطاء التي شابتها من قتل مدنيين وأسر آخرين، عن سياق الظلم المتواصل اللاحق بالفلسطينيين منذ 75 عاماً، إنما يقدّم دعوة مجانية للانتساب إلى أكثر الأفكار عدمية وداعشية في الغرب وعندنا. فعندما يكتب صحافي فرنسي مشهور، مثل صموئيل فيتوسي، في صحيفة لو فيغارو اليمينية، يوم الاثنين الماضي، أن "إسرائيل وحدها، والشرطة وحدها، والمجتمعات الغربية وحدها، (والبيض وحدهم؟) هم محرّكو التاريخ"، فإنما هو يقول بذلك لكل الفئات التي لا تنتسب إلى هذه الخانات إنها أعداء التاريخ وتطوره، أو بتعابير وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت "حيوانات بشرية" أو بأفضل الأحوال شعوب زائدة عن الحاجة، بالتالي فإن الحرب الدينية والثقافية والحضارية هي الحلّ الرجعي الماضوي الذي يقترحه أمثال فيتوسي لأزمات حاضرنا.
يُرسم طريقان أمامنا للتعاطي مع هذا الموقف الغربي الذي لا ينقُصه الاستعلاء العنصري وقد انفجر مرّة واحدة بعد السابع من أكتوبر: إنْ كنّا نحلم بمستقبل كوري شمالي لأنفسنا منعزلين عن العالم، فما علينا إلا تطوير شعاراتٍ عدمية من نوع "العالم يكرهنا" و"ما لنا غيرك يا الله" و"إما نحن أو هم"، مع تبشير بـ"الحرب الوجودية بيننا وبينهم"، نحن المسلمين وهم المسيحيين واليهود، وتزيينها بأبيات شعر مقتبسة من قصيدة أدونيس "قبر من أجل نيويورك" (1971). في هذه الحالة، إنّ كارثة بحجم هجمات 11 سبتمبر (2001) ستكون بمثابة بوصلتنا التي اختبرنا جيداً إلى أين أوصلتنا. أما في حال أردنا العيش فاعلين في هذا العالم ومتأثّرين به، وحجز الحصّة التي نستحقّها منه، في العلوم والتقدّم والتطوّر والحريات والفنون والثقافة والعدالة والرفاه والاقتصاد، فعلينا فعل بالضبط عكس ما نفعله هذه الأيام، أي التخفيف من جرعات المظلومية ومناقشة هذا الغرب في الإعلام والسياسة والاقتصاد والفكر والأدب والعلوم، والتخلّي عن هذا التعميم لدى الحديث عن الغرب وكأنه واحد موحّد لا طبقات فيه ولا اختلافات ولا ألوان وتناقضات وآراء وتنوع.
من بين أفضل المدافعين اليوم عن حقّ الفلسطينيين بالحياة وبالحرية وبالعدالة، مَن يعيشون في ذلك الغرب. هذا الغرب الذي ينقلب على نفسه وعلى قيمه اليوم بدفاعه عن قتل إسرائيل المدنيين الفلسطينيين بوصفهم مجرد أرقام وشعباً أدنى من غيره ولا يحقّ لهم ما يحقّ لغيرهم، قابل للتحوّل والتغيّر وهذا أهم قيمه. كيف يحصل ذلك؟ جزء كبير من الجواب تقع علينا نحن مهمّة صياغته، على ألا ننسى أن المواطن الغربي ينظر إلى أحداث منطقتنا بعينيه هو، لا مثلما نشتهي نحن أن يراها، وبحساسياته هو لا بحساسياتنا.