أسلوب غزّة في الفرح
رغم الشعور بالألم والإحساس بالعجز تجاه مقاطع يوميات أهلنا في غزّة بعيدا عن أصوات القنابل والتفجيرات، إلا أن هناك شعوراً آخر لا أستطيع تحديد ملامحه ينتابني كلما أراهم مستمرين في ممارسة يومياتهم تحت ظلال الصبر وقوة الإيمان بما عند الله لهم. شعورٌ هو مزيج من الفرح بأنهم ما زالوا أحياء وأقوياء والفخر بهم، لأنهم ما زالوا قادرين على البقاء فوق أرضهم رغم أنف المحتل الذي لم يفعل ما فعله دائماً، وبالذات منذ السابع من أكتوبر (2023) إلا بغرض تشريدهم وتهجيرهم من أراضيهم ليحتل ما بقى منها تحت سيطرتهم.
وعلى سبيل الأمل الذي هو صنو الشخصية الفلسطينية وواحد مما امتاز به شعب الجبّارين الذي قال عنه محمود درويش إنه شعب يحب الحياة ما استطاع إليها سبيلا.. والفلسطيني يعرف خريطة تلك السبل على ندر في زمن الحرب والعدوان والقتل والتهجير، بل إنه يخترعها إن لم تكن موجودة، وبأبسط الأشياء التي يملكها أو يستطيع الحصول عليها في معركته اليومية مع العدو بكل صوره وأشكاله.
ما زال الفلسطينيون في غزّة يجيدون ممارسة الحياة والفرح بأقلّ ما يتوفر لهم، وما زال للعيد بهجته لديهم بالصبر والصلاة والدعاء والابتسامات المسيجة بدموع الفقد والموت والحرمان. وما زالوا يسعون إلى استدراج كل ما يذكّرهم بأنهم أحياء باحتيالات عفوية ومقصودة، تبدو على بساطتها وكأنها أقوى سلاح يمكن فعلاً أن يهزم العدو المعتدّ بعدّته وعتاده والمغرور بتأييد الحكومات الغربية له!
رأيت مقطعاً مصوّراً لعائلة من شمال غزّة عادت إلى بيتها بعد فترة تهجير قضتها في رفح. كان البيت مدمّراً بالكامل تقريباً، حتى لا يكاد يوجد جدار واحد على وضعه. ومع هذا، فقد اجتهد أفراد الأسرة برفع الأنقاض قدر استطاعتهم ونظّفوا المكان الصغير الذي يمكن العيش فوقه، وفرشوا سفرتهم ووضعوا عليها ما استطاعوا الحصول عليه من طعام بسيط ليكون إفطار العيد. أشعلوا شموعاً وبخّوراً ولبسوا ما تيسّر لهم من ملابس تليق بفرح العيد... أجلوا أحزانهم قليلاً وفرحوا كثيراً!
مشهد آخر لفتاة فلسطينية تخبز كعك العيد على نار أوقدتها من الخشب والكراتين خارج خيمة النزوح التي تسكنها مع أسرتها منذ شهور، أما مكوّنات عجينة الكعك فكانت بدائل متوفرة من كل شيء غير متوفّر. المهم أن رائحة الكعك انتشرت في المخيّم وأشاعت معها لحظات من فرحة العيد، كله ولا أبالغ إن قلت إن الرائحة الشهية وصلت إلى كل من شاهد المقطع بالإحساس الطاغي الذي تفطر من ابتسامة الفتاة، وهي تشرح مكونات كعكها.
مشهد ثالث لسيدة تصنع قهوتها على موقد صغير يعمل بالغاز. قالت وهي تبتسم إنها لا تعلم إن كانت العملية ستنجح أم أن أنبوبة الغاز التي كانت قد حصلت عليها بشقّ الأنفس ستخذلها وتنتهي قبل أن تفور الركوة... نجحت العملية بالفعل، وصبّت السيدة قهوتها في فنجانها الصغير الأنيق احتفالاً بهدنة دقائق قليلة من حربٍ سلبتها عدداً من الأحباب والمعارف والكثير من الفرح والشعور بالراحة.. لكن الحياة مستمرّة وسبل العيش فيها رغم كل الصعوبات ينبغي أن تكون دائما حاضرة.
مثل هذه المشاهد يتداولها الصهاينة بينهم وفي حساباتهم على وسائل التواصل الاجتماعي باستغراب وحنقٍ وغضب.. ذلك لأنهم غير قادرين على تفسيرها ولا تفكيكها. هم لا يعرفون كيف تستطيع الأم الفلسطينية توديع ابنها الشهيد بالزغاريد، رغم الألم الخفي، ولا يفهمون لماذا يخاطب الجد الفلسطيني الله تعالى وهو يحمل أشلاء حفيديه بين يديه قائلا: خُذ منا يا الله حتى ترضى. لا يفقهون لغة الحياة باللهجة الفلسطينية، ولا لكنة الفرح بأسلوب غزّة وأهلها، وربما لهذا هم يتعجبون ويستغربون... وينهزمون عاجلاً أو آجلاً!