أعراض الشيخوخة الأميركية
كتب الكثير، وقيل أكثر، عن الخروج المذل للولايات المتحدة من أفغانستان بعد احتلال عسكري دام عشرين عاماً. وعلى الرغم من أن الرئيس الأميركي، جو بايدن، كان أصرّ، غير مرّة، أن انسحاب قوات بلاده من العاصمة الأفغانية، كابول، لن يكون فوضوياً ومخزياً كالذي جرى في عاصمة فيتنام الجنوبية، سايغون، أمام زحف قوات فيتنام الشمالية عام 1975، إلا أن مشاهد يوم الأحد الماضي، وحركة طالبان تُحكم سيطرتها على العاصمة، أعادت إنتاج مسلسل الخزي ذاك. وستبقى صور الطائرات المروحية التي كانت تجلي موظفي السفارة الأميركية إلى مطار كابول، والفوضى في المطار الذي تؤمنه القوات الأميركية، شاخصةً إلى عقود طويلة مقبلة، مذكّرة بأن الولايات المتحدة، وإنْ كانت تملك كثيراً من أسباب القوة والعظمة، إلا أنها في المحصلة ليست إلهاً، وهي تخضع للقوانين والنواميس الكونية ذاتها، ومن ذلك أن غرور القوة قد يُعمي البصر والبصيرة، ويبطل أي تخطيطٍ محكم، ويسقط الاستراتيجيات المدروسة والموضوعة.
تعلم واشنطن، منذ عام 2005، أنها كانت تخسر الحرب في أفغانستان، أي منذ أيام إدارة جورج بوش الابن التي غزت ذلك البلد عام 2001. وبقيت هذه القناعة توثّق في التقارير الأميركية السرّية منذ ذلك الحين، وحتى تمَّ الكشف عنها في صحيفة واشنطن بوست أواخر عام 2019، تحت عنوان "الأوراق الأفغانية". لكن أياً من الإدارات المتعاقبة منذ بوش، مروراً بإدارتي باراك أوباما ودونالد ترامب، امتلكت الجرأة على الاعتراف بالهزيمة. بايدن امتلك جرأة تحدّي المؤسسة العسكرية، وأصرّ على إنفاذ قراره بالانسحاب من أفغانستان.
حالة من التخبّط السياسي والانقسام المجتمعي الأميركي المتزايد
من الناحية الإطارية البحتة، كان منطق بايدن سليماً. لا يوجد شيءٌ يمكن أن تفعله الولايات المتحدة لتغيير المعطيات على الأرض. وضعت واشنطن وحلفاؤها عشرات الآلاف من الجنود على الأرض في أفغانستان، واستخدموا أعتى أنواع الأسلحة، ومع ذلك لم يتمكّنوا من سحق "طالبان" وكسر شوكتها. كانت تلك القوات تحتل المدن والولايات الأفغانية في النهار، وتسترجعها "طالبان" في الليل. ذلك أمر طبيعي، فـ"طالبان"، اختلفت مع فكرها ونهجها السياسي أم اتفقت معهما، نتاج أفغاني طبيعي، وليس مستجلباً، كالقوات الأجنبية. درّبت واشنطن، وحلف شمال الأطلسي، مئات الآلاف من الجنود ورجال الأمن الأفغانيين وسلّحاهم، ومع ذلك لم يكونوا قادرين على التصدّي لمقاتلي "طالبان" بأسلحتهم البدائية.
فارق بين قوة تؤمن بانتمائها لأرض وقضية، حتى وإن قاربها كثيرون على أنها "رجعية"، وقوة استنبتها محتل أجنبي، وتشرف عليها حكومةٌ يستشري فيها الفساد. من كان لديه شك في ذلك فلينظر كيف انهار الجيش الأفغاني أمام زحف "طالبان"، من دون قتال في أغلب الأحيان، وكيف كان جنوده يلقون أسلحتهم ويفرّون من أرض المعارك. هؤلاء لا يشعرون بالانتماء لهَمٍّ وطني يكون لديهم الاستعداد للتضحيةٍ في سبيله، فهم قد تمَ إعدادهم لكي يكونوا قوة "وكيلة". وعندما أعلن "السيد" قراره بالانسحاب وتركهم لمصيرهم المحتوم، سارعوا إلى شراء حياتهم وأمنهم وسلامتهم. لماذا يتوقع أحد من الجنود الأفغان أن يكونوا أكثر ملكيةً من قادتهم وزعمائهم الذين أطلقوا لأرجلهم الريح وولّوا هاربين خارج الحدود؟
ما زالت أميركا القوة العالمية الأولى، اقتصادياً وعسكرياً، وإنْ كانت دول، مثل الصين، تقلّص الفارق بشكل متسارع
كان بايدن يقول "إننا قادرون على تأخير الانهيار ولكننا غير قادرين على منعه إذا لم يكن لدى الأفغان الذين تدعمهم واشنطن العزيمة للقتال". وهو كان واضحاً أنه لا يمكن لأميركا أن تبقى تستنزف قوتها وإمكاناتها في حروبٍ هامشيةٍ لا متناهية، في حين تتابع الصين وروسيا ذلك بغبطة وسرور. لكن بايدن وعد أيضاً بأن يكون الانسحاب "منظّماً وآمناً" وهو ما لم يحدث. صحيحٌ أن التقارير الاستخباراتية كانت تتوقع معركة كابول في فترة ما بين شهر وثلاثة أشهر بعد الانسحاب الأميركي، إلا أن هذا لا يعفي إدارة بايدن من تحمّل مسؤولية مشاهد الانسحاب المخزية، وضعف التخطيط له وسوء هذا التخطيط.
الأهم من كل ما سبق أن ما جرى في أفغانستان أعاد إطلاق ذلك النقاش الذي تتردّد أصداؤه، لا في أميركا فحسب، بل في أرجاء العالم: هل تعيش الولايات المتحدة في طور التراجع والانحدار؟ كان لافتاً احتفاء وسائل إعلام صينية رسمية بمشاهد الفوضى الأميركية في كابول، إلى حد أن تعلق إحداها، مستهزئة، إن انتقال السلطة في العاصمة الأفغانية إلى أيدي "طالبان" كان أكثر سلاسة وهدوءاً من انتقال السلطة من ترامب إلى بايدن، في إشارة إلى فوضى وعنف اقتحام الكونغرس من أنصار ترامب مطلع العام الجاري. ليس هذا فحسب، إذ دعت وسائل الإعلام هذه، والتي لا تنطق إلا بما تريده السلطة، تايوان إلى أخذ العبرة من تخلّي واشنطن عن وكلائها في أفغانستان. يحدث هذا في الوقت الذي بدأت فيه أصوات الأوروبيين تتعالى لتطوير خططهم وقدراتهم الذاتية لضمان أمنهم القومي، خصوصاً أمام روسيا، سواء في حالة وجود الولايات المتحدة أم غيابها. حتى إسرائيل تشهد النقاش نفسه اليوم، وما إذا كان يمكن الركون إلى الوعود والالتزام الأميركي بأمنها.
ما جرى في أفغانستان ما هو إلا تعبير آخر عن تآكل العزيمة الأميركية
لا ينبغي أن نتوهم هنا أن الولايات المتحدة فقدت قوتها وقدراتها. على العكس، ما زالت هي القوة العالمية الأولى، اقتصادياً وعسكرياً، وإنْ كانت دول، مثل الصين، تقلص الفارق بشكل متسارع. إذن، المشكلة ليست في الإمكانات، بقدر ما أنها ترجع، إلى حد كبير، إلى حالة التخبّط السياسي والانقسام المجتمعي الأميركي المتزايد. في العقدين الأخيرين، كل شيء في أميركا مسيّس بطريقة فظّة لا تراعي، في أحيانٍ كثيرة، مصالح البلاد. يكفي أن ندلل هنا كيف خرج ترامب داعياً إلى استقالة بايدن مجللاً بـ"العار"، بسبب ما جرى في كابول. المفارقة، إدارة ترامب هي من فاوضت حركة طالبان على الانسحاب ووقعت معها الاتفاق عام 2020. يَتَبِعُ أغلب الجمهوريون خطى ترامب، ويضغطون لتسجيل نقاط ضد بايدن والديمقراطيين تمهيداً لمعركة الانتخابات النصفية العام المقبل. هكذا، تتحوّل مسألة متعلقة بالكرامة الوطنية والعظمة الأميركية خنجراً لتمزيق المصالح الاستراتيجية العليا. ليس ذلك فحسب. مثلاً، منذ شهر يوليو/ تموز الماضي، انتكس الوضع الوبائي في الولايات المتحدة من جديد بعد أشهر من التحسّن الملحوظ جرّاء لقاحات كورونا. عناد ولايات جمهورية، كتكساس وفلوريدا، وتسيس اللقاحات وكمامات الوجه وأدلجتهما، من أجل مصالح حزبية وانتخابية ضيقة، ينذر بانهيار اقتصادي أميركي من جديد. يحدُث هذا، في حين تمضي الصين في تعافيها الاقتصادي، بعد ضبطها الوضع الوبائي داخل حدودها، ومن ثمَّ لا عجب أن عير مسؤولون صينيون الأميركيين بالعطب الذي تعاني منه ديمقراطيتهم.
باختصار، ما جرى في أفغانستان ما هو إلا تعبير آخر عن تآكل العزيمة الأميركية. يعود ذلك جزئياً إلى تسييس المصالح الكبرى للدولة، وإخضاعها لمنطق المناكفات الحزبية والحسابات الانتخابية، وما يضيفه ذلك إلى الانقسام المجتمعي. تعاني الولايات المتحدة اليوم من عجز في القدرة على تطوير رؤية ومشروع طموحين لمكانتها العالمية، وكذلك من غياب طراز من القيادات التاريخية في الحزبين الحاكمين. إنها دورة الزمان التي خضعت لها إمبراطوريات سابقة، وتسبّبت في شيخوختها ثمَّ انهيارها. وإذا لم تتمكّن واشنطن من تدارك أخطائها وإصلاحها، ومن ذلك لجم مغامراتها العسكرية الاختيارية، فإنها قطعاً لن تكون استثناءً في سياق السنن الكونية ونواميسها.