أعياد المقبرة .. المبهجة!
أستغرب تماماً من الشعور بالضيق، وأحياناً الكآبة التي يقول بعض الناس إنّهم يعيشونها عندما تأتي سيرة الموت أو المقبرة، فأنا على العكس منهم، لا أعيش بهجة مفاجئة وسط هذا النوع من الأحاديث المتعلقة بالموت والمقابر وحسب، بل إنني، في أحيان كثيرة، أستدرجها استدراجاً لاستحلاب لذائذي الخبيئة في ذكرياتي مع من رحل في الموت ممن أحب. فكلّ حديث عن الموت يفضي إليهم، وكلّ سيرة مقبرة تحيل إلى أمكنتهم في ما أعرف من أرض في الدنيا. لا أدري إن كان هناك من يشبهني بتلك المشاعر أم لا، لكنّني أريد أن أحتفظ بها دائما لتكون زاداً حقيقياً لي في طريقي نحو النقطة الأخيرة لي في هذه الحياة.
منذ خصّني الله بكومة تراب في المقبرة عليها شاهد يحمل اسماً أعرفه جيداً، وأنا أعيش العيد موعداً منتظراً مع المقبرة. لكي يبدأ عيدي الحقيقي ينبغي أن يبدأ في المقبرة. أزورها بعد صلاة العيد مباشرةً، لأجدني أعيش بهجة غير متوقعة لمن لا يعرفون تلك المواعيد الحقيقية مع الحياة وسط شواهد الموت.
خلال العامين الأخيرين، تضاعفت حصّتي من المقبرة، وتشكلت في هيئة قبرين متباعدين قليلاً في جغرافيا المكان، لكنّهما متلاصقان عبر حبل سرّي في واقع الموت والحياة.
أمي وأخي الأكبر رحمهما الله في المقبرة ذاتها. بينهما شارع ترابي ضيق، وبضعة قبور وبضع سنين قبل الموت وبعده أيضا. عندما انتهيت من صلاة العيد هذا العام، كان قلبي يدقّ باتجاه موعدي الأثير مع المقبرة. أعرف أنّني أزورها في غير ذلك الموعد الذي يتكرّر مرتين في العام، لكنّ موعدي العيد مختلفان جداً، في البهجة والألفة والمشهد الجماعي الذي يجمع في سياقه الكبار والصغار في أناقةٍ لافتةٍ ودموع تحاول ألّا تكمل مسيرتها وسط الفرح المعتاد. وصلت إلى المقبرة بصحبة أفراد العائلة لنجدها وقد ازدحمت بزوّارها في طقس صباحي منعش، وسط ضباب مفاجئ زاد المكان الترابي جمالاً.
يستغرب كثيرون ممن يعرفونني عندما أصف جمال المقبرة وألفتها وشعوري بالأنس في وسطها، فهي، كما يعتقد كثيرون، مكان الموت وعنوان الميتين الذين لا يردّون التحايا، لكنّها بالنسبة لي مكان الحياة في اكتمالها النهائي، وعنوان من نحبّ، فنحن لا نزورها إلا لشعورنا بالشوق لمن افتقدناهم الفقد الأبدي، فنذهب لنحييهم ونسلم عليهم وكلنا يقين، لا يهم إن كان حقيقياً أم لا، بأنّهم يسمعون ويفرحون ويردّون علينا التحايا والسلام.
كانت النباتات والشجيرات الصغيرة التي نبتت فوق القبور، وبينها خلال فصلي الشتاء والربيع قد تحوّلت الآن إلى اللون الذهبي، ولم يبق من اخضرارها إلا ما حرص بعض الأهالي على سقياه بالقرب مما يخصّهم من قبور، فنتج عن ذلك مشهدٌ ملونٌ متسقٌ في ذاته خالص الجمال والأناقة، ساهم في تعزيزه بوجداني، وأنا أجيل النظر في ما حولي، في تنوعات الناس في أشكالهم وأزيائهم. فالمقبرة عامّة، وترتيب القبور فيها لا منطق له سوى تاريخ الموت. وهكذا اختلطت الأسماء بعضها مع بعضها الآخر في هدأة الموت وانتظام الصفوف لتتصاعد الهمهمات بالدعاء والبكاء الخفيض، وبعض الحكايات والأخبار التي يحرص الأحياء على إبلاغها إلى الأموات على شكل فرح وبهجة.
أنتعش برائحة التراب وقد اختلط بمياهٍ يرشّها الزائرون على قبور أهاليهم، فيتكوّن ما يشبه المطر في رحلة عكسية من الأرض إلى السماء، وتنتعش الروح بذكريات المطر التي تجمعنا بمن فقدنا فيكون المعنى الحقيقي الكبير والجميل للحنين.
الحنين .. السلاح الأقوى الذي نشهره بوجه الذكريات الجميلة والأليمة أيضاً، فيسلمنا إلى غياب من نشعر بالحنين تجاههم. رحمهم الله جميعاً... ورحمنا نحن أيضاً!