أعياد قديمة متوارثة
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
لكلّ دولة عربية طريقتها في العيد، فيبدأ الاستعداد له قبل وقت كافٍ، وخاصّة عيد الأضحى، الذي يبدأ التفكير فيه باختيار الأُضحية المناسبة. واختيار الأضحية هاجس حقيقي لأُسر كثيرة. أتذكّر في المغرب، مثلاً، أنّه لا بدّ لكلّ أُسرَة أن تتدبّر أمر شراء "الحولي"، بل تكاد تشعر أنّ العيد يمكنه أن يتلخّص في الكبش الذي يجلبه ربّ الأُسرَة قبل وقت كافٍ من صباح العيد وعادة ما يُربَط في سطح البناية أو حتّى في داخل البيت أو الشقة. وبذلك، قبل ليلة من العيد، الصوت الشائع في الفضاء واللغة السائدة لغة المواشي، وكأنّ هذه الدواب تُودّع الحياة بطريقتها.
في قرى عديدة في عُمان، أيضاً، يوجد ما يُسمّى هبطة العيد. وهذه قبل أيّام قليلة من عيد الأضحى، إذ يفترش الأهالي، عادةً، ساحة أو منخفضاً من القرية يتشكّل فيه سوق مُرتَجَل ومؤقّت. وهناك، تُعرض المواشي للبيع. ويتنقّل البائعون، عادةً، من هبطة إلى أخرى، فتتفاوت مواعيد الهبطات، أيضاً، من قرية إلى أخرى، وذلك، حتّى تجد هذه المواشي مجالها الحيوي في البيع والشراء، فإن كان موعد الذبح معلوم فموعد بيع الأضحيات مُتغيّر.
في صباح العيد لا يأكل الناس في عُمان اللحم، إنّما الدجاج عادةً، وهنا يكون الموعد الصباحي مع ما يعرف محلّياً باسم "العرسية"، وهي خليط محلّي قديم ومتوارث يشارك شباب كلّ بيت، ومنذ الفجر، في إعداده. ويتطلب إعداد هذه الوجبة القوّة العضلية. إذ توضع عصاً خشبيّة غليظة وسط مرجل كبير. وهنا، تبدأ عملية خلط الدجاج بالأرزّ الأبيض إلى حدّ التماهي، ثم يُضاف السمن المحلّي أو ما يعرف بـ"الترشه"، وهي خليط من تمر هندي وزبيب وقرفة وتمر معصود بدل السكّر. وبعد صلاة العيد تقدّم هذه "العرسية" في صحن كبير ينكبّ عليه أفراد الأُسرَة. أو يأخذ كلّ بيت صحنه إلى مجلس عام. وهناك، تُصفّ الصحون لمن شاء من الناس أن يتقدّم للأكل. وبعد أكل "العرسية" يأتي دور ذبح الأُضحية. جزء من اللحم يُتصدَّق به على مُستحقّيه، وآخر يُقطّع قطعاً صغيرة لتُصنَع منها وجبة تسمّى "المقلاي"، تؤكل في وقت الغداء مع خبز الرخال الرقيق، وهناك من يضيف إليها عسل النحل، وجزء آخر لوجبة "المضبي"، إذ يُشكّ اللحم في أسياخ خشبية وتحفر حفرة صغيرة في باحة الدار تُشعل فيها النار، ثم تصطفّ العائلة حول تلك الدائرة النارية إلى أن تتكوّم الأسياخ الناضجة (المشاكيك) لتكون وجبةً للعشاء. وفي اليوم نفسه، يحدث أمر في غاية الأهمية، وهو وجبة الشواء. وسيأتي هذا الشواء على ثلثي الأُضحية. وإذا كانت الأُسرَة كبيرة تكون الأُضحية ثوراً أو ثلاث غنمات، من أجل وجبة الشواء. سوف يُصبّغ هذا الشواء جيّداً بما يسمّى "التخميرة" أو "الخمار"، وهو مزيج مُعتّق من فلفل وثوم وبهارات، ثمّ يلفّ اللحم بورق الموز، ويوضع في شوال (خصفة)، ويُربَط جيّداً لأنّه سيظل تحت الأرض يومَين وهو يُطبَخ ببطء شديد. حيث تحفر حفرة كبيرة في وسط الحارة أو القرية، وفي ساعة معلومة يجب أن يَحمِل كلُّ بيت زوّادته من اللحم المُعدّ للشواء في انتظار استواء النار في الحفرة. ويضع بعضهم علامات لكي يتعرّفوا، بعد يومَين، إلى شوائهم، بعد أن تُغيّر النار تحت الأرض معالمه. وعادة ما توضع "علامةَ تمييز"، قطعة معدنية ستخرج سوداء من تحت الأرض بعد يومَين، ولكنّها لن تحترق. والذي لم يضع علامة لشوائه سيعاني من أجل تمييز زوّادة لحمه من غيرها، أو أنّه يُضطرّ إلى الانتظار حتّى تتّضح له الرؤية في نهاية المطاف.
لحظة الرمي السريع والمتدافع للشواء، ثم لحظة الكشف عن غطائه، جماعيتَان، ويمكن أن تحفّهما مشاعر غضب وصراع أو فرح وغناء، فالذي يستطيع أن يدفع قطعة شوائه إلى الحفرة في الوقت المناسب يكون مرتاحاً أكثر من الذي تأخّر، وقد يظلّ يوسوس ليلتَين مُتشكّكا بأنّ شوائه سيخرج نيّئاً. ومن الأغاني التي تقال عادة في مثل هذه الأوقات: "شوانا نضيج وشواكم ني/ شواكم قرقرة لْجْدَي"، وهي عبارة لا تخلو من انبساط ساخر.
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية