أفلام لا نملّ من إعادة مشاهدتها
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
كما توجد روايات وكتب يمكنك أن تعيد قراءتها أكثر من مرّة في أوقات متباعدة، هناك أيضاً أفلام يمكن القول إنها تحرّك الشغفَ، ويمكن مشاهدتها من جديد بحماسة من يشاهدها للمرّة الأولى. على سبيل المثال، لا الحصر، الجزء الأول من الفيلم الشهير "العرّاب" (1972، إخراج فرانسيس فورد كوبولا). يمكن أيضاً إضافة فيلم "عطر امرأة" (1992، إخراج مارتن برست)، وبطله عميد متقاعد، لكنّه أعمى، وهو من أفلام ما اصطلح على تصنيفها "أفلام الشخصية الواحدة"، ومن مميّزات هذه الأفلام أن البطل فيها يستحوذ بقوة الأداء والحضور والشخصية والفكرة على جلّ مشاهدها.
"عطر امرأة" أحد الأفلام التي يمكنها أن تحرّك العقل أكثر من العاطفة، نظراً إلى عمق فكرته، والخبرة الحياتية التي من شأنها أن تفيد المشاهد وتشحذ همم تفكيره، وتجعل ذهنه متّقداً طوال مدّة العرض، كما يدفعه نسيج الفيلم إلى التماهي مع قوة الفكرة وأداء الممثّل معاً، فقد كان العميد (أدّى دوره بإتقان شديد آل باتشينو) شخصاً يتألّم، يلجأ إلى الكحول التي لا تزيده إلّا مأساةً، وتُعمّق إحساسه بعدم جدوى الحياة وبضرورة الانتحار. لكنّ تقمّصه للدور حدّ التماهي صيّره أعمى يحاول أن يُقلّد المبصرين، وليس العكس. فقد كان متقناً ومتقمّصاً دوره إلى أبعد حدود التماهي والانسجام، وكان طبيعياً أن ينال جائزة الأوسكار لأحسن ممثّل (يمكن أن نتذكّر أيضاً دور النجم المصري محمود عبد العزيز في فيلم "الكيت كات").
يحكي "عطر امرأة" قصّة طالب يدرس بمنحة في مدرسة مرموقة، يلتحق بعمل مؤقّت مقابل 300 دولار. يتلخّص العمل في مصاحبة رجل أعمى في رحلة تستغرق ثلاثة أيام، والرجل عميد سابق في الجيش أحيل على التقاعد بعد إصابته. يعاين الطالب ثلاثة من زملائه المرفّهين يدرسون على حساب آبائهم، يعملون "مقلباً" في عميد الجامعة عن طريق تعطيل سيّارته وتشويهها، وتصادف إحدى المعلمات الشاب وهو يراقب رفاقه، لكنها لم تتبيّن وجوههم بحكم بُعدها عنهم. في خضمّ ذلك، يواصل الشاب عمله الجديد المؤقّت مع العميد الضرير.
تقيم الجامعة محاكمةً للشاب الذي رفض الوشاية برفاقه، متعلّلاً بأنه لم يرهم، مقاوماً إغراءات عميد الكليّة بأن يُلحقه بجامعة هارفارد بعد تخرّجه إذا أخبره عن أسمائهم. يعيش العميد مع ابنة أخيه وزوجها وابنيها، يقرّران أن يذهبا في رحلة عدّة أيام، فيرفض العميد الكفيف أن يرافقهما، لذلك يصرّان على أن يكون معه شاب يرعاه بمقابل مالي. يرغب العميد في السفر إلى نيويورك خلال غيابهم عن البيت، فكانت فكرة نشر إعلان عمل مؤقّت يتلخّص في مرافقته في رحلته، ولم يكن الشاب الذي يرافقه يعرف أن العميد قد قرّر الانتحار بعد رحلته تلك.
تدور في أثناء تلك الرحلة مواقفُ كثيرة. كان العميد الأعمى، الذي لم يسبق له الزواج في حياته، يتوق لأن يعيش مع زوجة، لذلك سُمّي الفيلم "عطر امرأة". في أعماقه لم يكن يريد أن يعيش حياة الفوضى وإدمان الكحول، يريد زوجةً يستقرّ معها فقط، لكنّه يبالغ في دفن نفسه في حفرة اليأس، فتزيد أزمته تفاقماً. وحين يقرّر الانتحار بمسدس كان يحتفظ به منذ أيام وظيفته في الجيش، يتدخّل الشاب لإيقافه، ويدور بينهما صراع عنيف. في نهاية العراك، يرضخ العميد ويسلّم المسدس للشاب. ثم يعودان إلى بلدتيهما ويتوادعان. خلال ذلك تعقد المدرسة اجتماعاً يحضره جميع الطلاب، لمحاكمة الطالب الذي رفض الوشاية بزملائه.
لم يكن مع الطالب أبوه (الذي طلّق أمّه) ليدافع عنه، وقد تزوّجت أمّه بعد ذلك رجلاً لا يكنّ تقديراً للشاب، لذلك لا يمكنه أن يلعب دور الأب في تلك المحاكمة، التي يحتاج فيها الشاب إلى من يسانده. جميع الطلبة المتّهمين كانوا برفقة آبائهم، إلّا هو. وفي تلك الأثناء يدخل العميد، في مشهد مؤثّر أدّاه آل باتشينو بإتقان شديد، شحذ فيه أقصى طاقاته وعبقريته في التمثيل، فترافع عن الطالب. وفي النهاية، قرّرت محكمة المدرسة تبرئة الطالب ووضع الطلبة المتّهمين تحت المراقبة.
في نهاية الفيلم، حين يكون الجنرال في طريقه إلى البيت، تقترب منه مدرّسة تابعت بإعجاب شديد مرافعته في المحكمة، فيخبرها الجنرال عن نوع عطرها، ثمّ يسألها: هل أنت متزوّجة؟... فتجيبه بالنفي، لينتهي الفيلم مع أفق هذه البداية الجديدة.
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية