أفغانستان .. الحرب العبثية
كما كان متوقعا، وقبل الموعد المحدّد، انسحبت أميركا وحلفاؤها من أفغانستان تحت جنح الظلام، بدون احتفالات أو خطب رسمية تؤرّخ لهذه اللحظة التي كانت منتظرة منذ التوقيع على اتفاق الدوحة يوم 29 فبراير/ شباط 2020 بين واشنطن وحركة طالبان، والذي وضع حدا لنحو عشرين سنة من وجود أميركا وحلفائها في تلك البلاد. ونتيجة هذه الحرب العبثية التي استنفدت تريليونات الدولارات بادية للعيان، ولا تحتاج إلى تمحيص وتحليل كثيرين، فقد خلفت أميركا وحلفاؤها بلدا مدمّرا ومنقسما على ذاته، وعلى شفا حرب أهلية تلوح في الأفق.
وقد سبق أن كتبت، في هذا الركن، عشية التوقيع على اتفاق الدوحة، إن خروج أميركا وحلفائها من أفغانستان هو بمثابة هزيمة غير معلنة لها ولحلفائها، تكاد لا تختلف عن الهروب الأميركي الكبير من سايغون منتصف سبعينيات القرن الماضي، معلنة عن تكبّدها أول وأكبر هزيمة لها في التاريخ. واليوم نحن أمام السيناريو نفسه، ولكن بإخراج أقل دراماتيكية من مشهد تهريب السفير الأميركي من فوق مبنى سفارة بلاده في سايغون على متن مروحية معلقة في السماء، قبل سقوط العاصمة الفيتنامية في يد ثوار الفيتكونغ.
خروج أميركا وحلفائها من أفغانستان بمثابة هزيمة غير معلنة لها ولحلفائها
كان الانسحاب الأميركي من أفغانستان مبرمجا يوم 11 أيلول/ سبتمبر 2021، وهو موعد شديد الأهمية في رمزيّته السياسية في الولايات المتحدة. وتفاديا لأي ربط بين مآسي ذلك اليوم وأهداف تلك الحرب المأساوية، تم تسريع الانسحاب العسكري الأميركي من أفغانستان وتهريبه تحت جنح الظلام. وما بين الهروب "السينمائي" للأميركيين من سايغون عام 1975، في أثناء إجلائهم رعايا بلادهم من العاصمة الفيتنامية قبل سقوطها في يد الجيش الشعبي الفيتنامي، والخروج الأميركي المتخفي من قاعدة باغرام الجوية قرب العاصمة الأفغانية كابول، مرّت مياه كثيرة تحت الجسر، وتعلم الأميركيون دروسا كثيرة من الأثر القوي الذي تحفره الصورة في ذهن المتلقي. لذلك لم نر أي مظاهر للجنود الأميركيين، في مشهد بصري أو صوتي، وهو يجمعون حقائبهم، أو ينزلون علم بلادهم ويطوونه بعنايةٍ على أنغام موسيقى المارش العسكرية، كما تقتضي ذلك تقاليد الجيوش العريقة والكبيرة، ويفرضه سياق المناسبة التي لا تتكرّر كل يوم.
حرب غير مبرّرة منذ بدايتها، حرّكتها دوافعُ انتقاميةٌ في لحظة غضب قومي أميركي من فعل هجومي غادر على نيويورك وواشنطن
لا أريد أن أقف كثيرا عند خسائر هذه الحرب الطويلة، فهي مدوّنة في أرقام باتت معروفة، سواء تعلق الأمر بالخسائر في الأرواح التي تعد بالآلاف في صفوف الأفغان والأميركيين وحلفائهم الغربيين، من دون الحديث عن تهجير ملايين الأفغان وتشريدهم في بلادهم وفي الدول المجاورة. أما الخسائر المادية فتقدّر بتريليونات الدولارات، وبعقدين من الزمن الضائع من التنمية الضائعة والحروب المدمّرة التي لم تقف فقط عند حدود أفغانستان، وإنما تجاوزتها إلى العراق، وما زالت تداعياتها تتفاعل في أكثر من مكان في المنطقة.
كانت هذه الحرب العبثية غير مبرّرة منذ بدايتها، حرّكتها دوافعُ انتقاميةٌ في لحظة غضب قومي أميركي من فعل هجومي غادر على نيويورك وواشنطن، ما زالت كثير من دوافعه وملابساته غامضة، وما زال المخططون الفعليون له مجهولين. ويجب انتظار، بعد هذا الانسحاب أو الهروب الأميركي من أفغانستان، بعد أن ترفع قيود وتحفظات كثيرة على المعلومات المتعلقة بها، لتتضح لنا بعض فصول القصة الداخلية لهذه الحرب المرعبة وخلفياتها العميقة ومحفّزاتها الحقيقية الخفية، فهذه الحرب، بكل مآسيها، وخسائرها الثقيلة، كشفت عن الحقد الأعمى الذي بُنيت عليه استراتيجية صانع القرار السياسي والعسكري في أقوى دولة. وطوال عقدين، هي عمر هذه المغامرة الفاشلة، أظهرت الوقائع والأحداث على أرض الواقع عدم قدرة العقل السياسي والعسكري الأميركي على فهم واستيعاب التعقيد الاجتماعي والسياسي للمجتمع الأفغاني. كما أثبتت هذه التجربة المأساوية فشل تصدير الديمقراطية أو بالأحرى إرسائها قسريا، داخل بنيات ثقافات ومجتمعات شعوب أخرى مختلفة.
حقد أعمى بُنيت عليه استراتيجية صانع القرار السياسي والعسكري في أقوى دولة
أكدت لنا هذه الحرب، بكل مآسيها وتكلفتها البشرية الكبيرة، مدى عبثية بعض القرارات السياسية الطائشة والانفعالية التي تقوم على التحدّي الشخصي لسياسيين أنانيين، مثل الرئيس جورج بوش الابن ووزير حربه دونالد رامسفيلد الذي شاءت المصادفات أن تتوفاه المنية منسيا يوم خروج آخر جندي أميركي مهزوما من أفغانستان، ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير.. وغيرهم من السياسيين الذين لم يتوانوا عن استغلال مآسي الآخرين، بما فيها مآسي شعوبهم، للترويج الذاتي لأنفسهم من أجل أغراضٍ سياسية شخصية زائلة مع زوالهم.
ينسحب الجيش الأميركي غير منتصر من أفغانستان، وقريبا سينسحب بدون نصر يُذكر من العراق، مخلفا وراءه شرقا أوسط وأقصى مدمّرا تنهشه الفوضى، وتمزّقه الحروب، وينخره فساد الحكومات التي نصّبها أو دعمها الوجود الأميركي في المنطقة. وفي انتظار أن تتضح الصورة أكثر لما قد تؤول إليه الأوضاع في المنطقة بعد انسحاب الجيش الأميركي منها، تبقى القراءة النقدية لكل هذه الحروب العبثية ضروريةً لاستيعاب دروسها وعدم تكرار مآسيها في المستقبل. وعندما يحين الوقت لمثل هذه القراءة النقدية، وبشكل موضوعي، سيقف الناس عند المسؤوليات الفردية والجماعية لكل من انخرط فيها. عندها فقط سيكتشف الناس حجم المأساة الحقيقية لهذه الآلة الجهنمية، وستتعرّى لهم الخلفيات الإيديولوجية الحقيقية للقوى السياسية الاستراتيجية التي كانت تحرّك دواليبها من الخلف.