ألمانيا على "الـمُنزَلَق الصهيوني"
أحسبُ أن من التحوّلات الكبيرة التي كشفتها حرب غزّة ما اتّسم به ردّ الفعل الرسمي الألماني من انحياز غير مسبوق لإسرائيل، وهذا الموقف صادم في ما يتّصل بوجهته وحِدًّته، يرسم صورة جديدة لألمانيا (على الأرجح) لا يكفي لفهم ملامحها "خطاب التكفير عن خطيئة الهولوكوست"، وهو مفهوم عبـَّر عنه بألفاظ متقاربة مسؤولون ألمان، بينهم رئيس ألمانيا ومستشارها ونائبه، فضلًا عن وزيرة خارجيتها.
والأطر التقليدية التي يمكن الاستعانة بها لتفسير التحوّل، وفي مقدمتها افتراض تنامي نفوذ صهيوني منظّم عبر لوبي مشابه لنظيره الأميركي، تعجز عن تفسير الموقف الحافل بالمفارقات، داخليًا وخارجيًا، وألمانيا لم يسبق أن تحَكَّم في قرارها السياسي منطق الإسلاموفوبيا كما هو حال فرنسا مثلًا. ومن المعالم المهمّة في الموقف الألماني الجديد بدء موجة تشريعات في عدة ولايات تعمل جميعها على "تحصين إسرائيل".
وأخيرا، أوقفت ألمانيا تمويل مشروع حقوقي نسوي لمنظمّة حقوقية مصرية، اعتراضًا على توقيع رئيسة مجلس أمناء المؤسّسة عزّة سليمان على بيان لوقف الحرب ومقاطعة البضائع الإسرائيلية وقطع العلاقات الدبلوماسية معها. وبتأثير القرار الألماني، قررت منظمة حقوقية مصرية أخرى (المبادرة المصرية للحقوق الشخصية)، وقف التعاون الحالي والمستقبلي مع ألمانيا. وفي لهجة غير متوقعة مُطلَقًا، وصف أحد مؤسّسي المبادرة (حسام بهجت) موقف ألمانيا من الحرب في فلسطين بأنه "الأكثر انحطاطًا بعد الولايات المتحدة".
والدولة التي فرضت على نفسها، منذ الحرب العالمية الثانية، سلوكًا سياسيًا يتسم بحساسية لا نظير لها في العالم إزاء كل ما يمكن أن يعدّ سببًا في تورّطها في دعم ممارسات عسكرية تُذكِّر بماضيها النازي، قرّرت فجأة مضاعفة صادراتها من السلاح إلى إسرائيل (وافقت الحكومة الفيدرالية حتى 2 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي على زيادة أذون صادرات الأسلحة الألمانية إلى إسرائيل خلال العام الجاري بمعدّل 10 أضعاف مقارنة بالفترة نفسها من عام 2022)، ويحدُث هذا بينما تقتل إسرائيل المدنيين في غزّة.
قالت السفارة الألمانية في القاهرة إن معايير ألمانيا للتمويل الحكومي ألا تموِّل منظمّات متحالفة مع حركة مقاطعة إسرائيل (BDS) أو تدعو بأي شكلٍ إلى مقاطعة إسرائيل. وفي مناورة سياسية ستكون لها عواقبها على علاقة ألمانيا بالنخبة الحقوقية الليبرالية العربية، قالت السفارة إن قرارها يرجع إلى قانون ألماني لا يسمح بدعم منظمّات تدعو لمقاطعة إسرائيل والتشكيك فيها. وعلقت المحامية عزّة سليمان على ذلك واصفة الرد بـ"التضليل"، مضيفةً أن الحكومة الألمانية تتحجج بقرار سبق أن "أبطلته محاكم ألمانية"، كما أن موقفها تعبيرٌ عن رغبتها "في التطهّر من تاريخ بلدها الدموي تجاه اليهود على جثث المنظمات الأهلية وجثث المدنيين في غزّة".
أحد المؤشّرات المقلقة على نحو خاص عاصفة الاستهدافات الواسعة في المجتمع الأكاديمي الألماني لكل من ينتقد إسرائيل أو لا يدين "حماس"
كانت الناشطة المصرية قد وقّعت، مع رؤساء أكثر من 250 منظمة في العالم، على بيان يندّد بالجرائم الإسرائيلية، ويناشد أعضاء "اتفاقية منع الإبادة الجماعية أن تطالب "محكمة العدل الدولية بإصدار أمر ملزم بوقف إسرائيل حربها على غزّة، ومقاضاتها والدول الداعمة لها" فضلًا عن مقاطعتها اقتصاديًا ودبلوماسيًا.
وإحدى القراءات المحتملة لموقف ألمانيا أنها تستشعر خطرًا حقيقيًا على تحالف أميركي – أوروبي، صار الضمانة الأولى لأمن أوروبا في مواجهة مخاطر أمنية لن تكون الحرب الروسية الأوكرانية مشهدها الأخير. ودور إسرائيل الذي يروّجه بإلحاح نتنياهو كـ"مصدّ" وجبهة متقدّمة في مواجهة "البربرية" يتزايد أنصاره في أوروبا باطراد، وحديث نتنياهو عن سيناريو "دومينو" سينتقل فيه الخطر من غزّة إلى قلب الغرب، حديثٌ يستثير الكامن في الذاكرة الأوروبية عما يسمّى في أدبيات استشراقية غربية "الخطر الإسلامي". وفي هذا الإطار، يمكن قراءة تصريحات عدة مسؤولين ألمان عن أن وجود إسرائيل مسألة وجودية لألمانيا.
قد تكون الحاجة الألمانية استثنائية إلى تمتين التحالف الأميركي – الأوروبي، وفي القلب منه العلاقات الأميركية – الألمانية، يساهم في دفع ألمانيا باتجاه تبنّي الخطاب الأميركي، وهي صفقة "ضمنية" ليس من الصعب استنتاج وجودها بناءً على آثارها الكبيرة في الخطاب والسلوك الألمانيين. وأحد المؤشّرات المقلقة على نحو خاص عاصفة الاستهدافات الواسعة في المجتمع الأكاديمي الألماني لكل من ينتقد إسرائيل أو لا يدين "حماس"، بل كل من يدعو إلى وقف الإبادة.
والمحصلة، أن ألمانيا على منحدر صهيوني زلق، ووصولها إلى نهايته سيعني الكثير لها ولنا وللعالم.