أميركا في اختبار الترييف السياسي
منذ النصف الثاني من القرن العشرين، وفي إطار التغيرات التي حملتها حركات التحرّر الوطني المتتالية، ارتبط التغيير السياسي في العالم العربي، وبخاصة في الدول ذات النظام الجمهوري، بتغيير اجتماعي/ ثقافي كبير، يشار إليه غالباً بمصطلح "الترييف"، وكانت بداية الاهتمام الواسع بالظاهرة مرتبطاً، إلى حد كبير، بإطاحة نظام صدّام حسين الذي وصفت دراسات عديدة، صدرت بعد 2003، الكيفية التي استخدم بها البعثيون العراقيون "الترييف" بشكل واسع للسيطرة السياسية. ويُعَدّ كتاب "فلاحو سورية: أبناء وجهائهم الريفيين الأقل شأناً وسياساتهم"، (نشر ترجمته المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2014) للباحث الراحل حنّا بطاطو، أحد أهم أدبيات دراسة "الترييف" في سياقه العربي.
وحتى وقت قريب، كانت دراسة الترييف ترتبط جغرافياً (وثقافياً) بعالم الجنوب/ الشرق، مع قناعةِ (أثبتت السنوات القليلة الماضية أنها خطأ) أن مجتمعات الشمال/ الغرب حققت في ظل التحديث وحدة قيمية وثقافية تجعل ثنائية الحضري/ الريفي شيئاً من الماضي. لكن انتخابات 2016 الرئاسية الأميركية كشفت للمرة الأولى، بوضوح شديد، أن إحدى جهات الاصطفاف السياسي في جبهة الرئيس السابق دونالد ترامب ارتبطت بانقسام ثقافي/ سياسي أميركي بين "قيم ريفية" و"قيم حضرية". وقد كشفت تحليلاتٌ لاتجاهات التصويت آنذاك عن انتشار واضح لهذه القيم التي هي خليط من "المحافظة" و"الريفية"، في القلب الجغرافي لأميركا، مقابل انتشار لمركّب من القيم "الحضرية" والليبرالية في الولايات الساحلية.
أدّت السياسات الاقتصادية النيوليبرالية إلى حدوث تضخّم كبير في دور القطاع المصرفي في الاقتصاد الأميركي على حساب القطاعات الإنتاجية
أخيراً، أثيرت القضية مرة أخرى مترافقة مع انتخابات التجديد النصفي للكونغرس، التي جرت في ظل استقطاب داخلي حادّ، بعد أن أصبح هناك مؤشّرات "رقمية" للارتباط بين كل من الظاهرتين وبين التصويت للحزبين. وبحسب دراسة أميركية حديثة، "تميلُ المناطق الحضرية... تقليدياً لانتخاب الديمقراطيين، بينما تنتخب المناطق الريفية وولايات الجنوب والغرب الأوسط الجمهوريين". واستمراراً للنمط الذي سبقت الإشارة إليه في اتجاهات التصويت في انتخابات 2016، اتسمت اتجاهات التصويت في رئاسيات 2020 بالسمة نفسها، حيث أيّد ناخبو المناطق الحضرية الرئيس جو بايدن بنسبة 2 إلى 1، بينما دعمت المناطق الريفية الرئيس السابق دونالد ترامب بالنسبة نفسها. و"يتحدّث المراقبون السياسيون في الولايات المتحدة مرّة أخرى عن اتساع الفجوة بين الناخبين في المناطق الحضرية والريفية، فعلى مدى ربع قرن، صوّت الريف على نحو متزايد للجمهوريين، بينما صوّتت المدن للديمقراطيين، وأصبحت هذه المعادلة أشبه بالخط الفاصل الذي حلّ محلّ الانقسام بين الشمال والجنوب، باعتباره أكبر مصدر للاحتكاك السياسي في البلاد".
وتحمل الظاهرة في سياقها الأميركي دلالات عديدة. أولها، أنها نتاج التحولات الاقتصادية الكبيرة السريعة التي شهدتها البلاد منذ ثمانينيات القرن الماضي، حيث أدّت السياسات الاقتصادية النيوليبرالية إلى حدوث تضخّم كبير في دور القطاع المصرفي في الاقتصاد الأميركي على حساب القطاعات الإنتاجية، الزراعية والصناعية معاً. ثاني دلالات التحوّل أن موجة الاقتصاد المعلوماتي التي عزّزها إعلان ميلاد "العولمة" في مطلع التسعينيات، ثم ظهور شبكة الإنترنت، منحت المراكز الكبرى لهذه الصناعات في أميركا نصيباً كبيراً من الدخل الوطني وثروة البلاد. وجاءت الأزمة المالية العالمية التي بدأت من أميركا في عام 2008، أدّت إلى نزوح قدر غير مسبوق من رؤوس الأموال من قطاعات تقليدية إلى هذا القطاع تحت تأثير الأرباح الخرافية التي حققتها شركات سيليكون فالي وأمثالها.
شهدت سنوات حكم الرئيس السابق باراك أوباما (2009 – 2017) تحوّلاً كبيراً نحو ليبرالية اجتماعية أكثر تطرّفاً
والنزف الكبير الذي بدأ أواخر سبعينيات القرن الماضي وتصاعد في التسعينيات، وانتقلت في إطاره نسبة لا يُستهان بها من الشركات الصناعية الأميركية إلى الصين، وضع سكان الولايات الموصوفة بـ"الولايات الريفية" في حالة إنهاك اقتصادي متصاعد. وعلى مستوى القيم والخيارات الثقافية والأخلاقية، شهدت سنوات حكم الرئيس السابق باراك أوباما (2009 – 2017) تحوّلاً كبيراً نحو ليبرالية اجتماعية أكثر تطرّفاً، واعتبر مواطنون أميركيون من ذوي المزاج المحافظ المتدين (شبه الريفي) أن السلطة تستهدف بشكل مخطّط له تغيير حياة الأميركيين بدلاً من إدارتها. وجاء حكم المحكمة العليا الأميركية (2015) بتقنين زواج الشواذّ (2015)، ثم قرار أوباما، غير المسبوق، بالسماح بالتحاقهم بالجيش، ليستنفر قوى اجتماعية أميركية كانت أقل انخراطاً في الشأن العام، لتتحرّك مدفوعة بإحساس عميق بحتمية أن تخوض "معركة فاصلة" للدفاع عن حزمة قيم تلخصها ثلاثة مفاهيم: الريفية، التديّن، القيم المحافظة.