"أم ميمي" .. الإمتاع والمؤانسة
لا تزيّد في وصف الكاتب المصري، بلال فضل، بأنه واحدٌ من أبرع الحكّائين في هذا الزمان. ولمّا كان موهوبا في غير أمرٍ، فإن فرادة موهبته باهظةٌ في الحكي عن الشأن الذي يتناوله أو يأتي عليه أو يُخبر عنه. وهذه روايته الجديدة "أم ميمي" (دار المدى، بغداد، 2021) لا تشعُر، في أثناء قراءتها أنه كتبَها، وإنما أنه يحكيها قدّامك، وأنت تُنصِت إليه، وتنشدّ حواسُّك بانجذابٍ كبيرٍ إلى الحكاية، إلى ما يتتابع فيها من وقائع و"مفاجآت". يبدو بلال فضل "صنايعيا" في تيسير الحكاية لقارئها، عندما يبسُطها بكثيرٍ من "الحرفنة"، أداتُه لغته الطيّعة، ذات البساطة الغزيرة، وكذا النباهة (غالبا) في التقاط المفارقات، وفي انشغالاتٍ بالتفصيليّ في توصيف الشخصيات، خارجيا في هيئاتهم وجوانيّا في دواخلهم. وفي هذا كله، وكثيرٍ مثله، لا يحفل بلال فضل، وهو معنيٌّ بالحكاية من قبلُ ومن بعد، بتجريبٍ في بناء الرواية، أو بالنزوع إلى انتقالاتٍ زمنيةٍ متداخلةٍ، أو بإحالة القارئ إلى معرفيٍّ أو ثقافيٍّ، كما يفعل روائيون، بنجاحٍ أو بإخفاق. لا يؤدّي صاحب "أم ميمي" شيئا من هذا. يحكي فقط، في تتابعٍ ألفبائيٍّ خطّيٍّ، كلاسيكيٍّ، تقليديٍّ لا ينحو إلى أيٍّ من جماليات الحداثة في فن الرواية والتجديد فيه.
ما يتوخّاه بلال فضل في روايته، الشائقة، إمتاع المتلقي. وفي ظن صاحب هذه الكلمات أن أولى وظائف الفنون والأدب هو الإمتاع. وإذا ما توسّل واحدُنا حذاقة مولانا أبي حيان التوحيدي، ففي الوُسع إضافة المؤانسة. وهنا، لا مجاملة في الزعم إن "أم ميمي" روايةٌ ممتعة، غير أن لك أن تسأل عمّا إذا كان من مُرسَلاتٍ لها، تُجاوِر المؤانسة والإمتاع فيها، مثل مضمونٍ سياسي أو اجتماعي أو فكري. وجاهة السؤال هنا أن مسألة الإمتاع قد تأخذك إلى التسلية مقصدا ينهمُّ به العمل الفني والنص الأدبي، وما إذا كانت "أم ميمي"، ذات السّمت التقليدي في مبناها ومسار السرد فيها، تحقّق التسلية فحسب، أو التسرية عن النفس إذا شئت، من دون أن تصنَع أمرا آخر.
أحدِس أن سؤالا كهذا لم يطرأ على بلال فضل، لمّا انتهى من كتابته "أم ميمي"، وقد ألمح في سطرها الأخير إلى طوْرٍ يتبعُها سيُحكى "إنْ عشنا وكان لنا عُمر"، ولم يشكّل لديه أرقا أو شاغلا. أما إذا أراد قارئٌ أو ناقدٌ، أعجبته الرواية في الانجذاب القوي الذي تُحدثه لدى المتلقى إليها، أم لم تُعجبه إذا ما رآها حدّوتةً مسليةً وسطحيةً، فلكلٍّ منهما أن يجتهد في الإجابة على هذه الأسئلة. .. وقارئا وحسب، لم يفترض نفسَه يوما ناقد أدب، أجد "أم ميمي" تنويعا طيّبا في مجرى الرواية العربية الواسع، ذلك أن نصوصا غير قليلةٍ اختارت المنزع الذي ذهب فيه بلال فضل هنا ولم تنجح في الذي أحدثه هذا العمل، ليس فقط على صعيد إمتاع المتلقّي بحكايةٍ موشّاةٍ بالفكاهة والمفارقات والسخرية، في نصٍّ ضجّت فيه الروح التهكمية واللغة الفصيحة، السهلة الموحية (الماكرة غالبا)، المضفّرة بالعامية، واستثمر الكاتب إمكاناتها، واتّساعها، في تصوير قاعٍ اجتماعيٍّ مصريٍّ بالغ الرثاثة، وفي الإحاطة بالفضاء العام الذي تتحرّك فيه الشخصيات. ومفردة التصوير هنا ليست مبذولةً ولا مرتجلة (ولا تقليدية)، وإنما للتنويه بأن بلال فضل، السيناريست القاص الروائي، الحكّاء الذي يتقن التباسط مع سامعيه، ومع قرّائه حكما، أجاد في أن يجعل من لغة روايته هذه كاميرا، تقع عدستُها لا على الظاهر الماثل قدّامها فقط، وإنما أيضا تجوسُ في الحشايا والأخيلة .. ولعلها الرهافة الضافية في الرواية صنعت من هذا التصوير، البادي في تتابع الوقائع في 220 صفحة، المنجز الإبداعي في الرواية، وهذا ليس في وسع أعمالٍ تقوم على التسلية بحكاية الحواديت فحسب أن تفعله.
استهلكت هذه المقالة مساحتَها من دون أن تُخطِر قارئها عن "أم ميمي" نفسها. لا ضرورة لهذا، ليبقى في أفهام القارئ أن الرواية هذه ليست حكايةً مسليةً في المقدور إيجازها. .. ولكن، أم ميمي سيدة منزلٍ استأجر فيه طالبٌ في جامعة القاهرة غرفة، في حارة شعبية. ماذا يحدُث في هذا المنزل الذي تتوفى فيه أم ميمي في منتصف الرواية؟ ماذا عن أجواء هذه المرأة، ابنها وبنتها وطليقها، جيرانها؟ ماذا عن ورطاتٍ يجد نفسَه فيها هذا الطالب، الراوي الذي يحكي ويقصّ ويسرُد ويدردش .. ذلك كله، وكثير غيره، تعرّفك به الرواية نفسُها، وليس من مهمّة مبتهجٍ بها أن يوجزه، فينزِع منها مذاقَها. والدعوة هنا إلى قراءة "أم ميمي"، استعدادا لقراءة جديدٍ منتَظرٍ دائما لبلال فضل.