أن تخدم سيّديْن في وقت واحد
في المأثورات المسيحية "لا تستطيع أن تخدم سيّديْن في وقت واحد، لأن ذلك أمر مستحيل"، لكننا في العراق استطعنا تحويل ما هو مستحيل إلى ممكن. عشرون عاما ونحن نعمل في خدمة سيّديْن في وقت واحد، إلى درجة أننا أدمنّا العبودية، وأتقنّا فلسفة الخضوع والركوع وتقبيل الأيدي وحتى الأقدام. وعلّمَنا حكّامنا الشطّار الماكرون كيف نجمع بين صداقتنا (اقرأ: تبعيتنا) للسيّد الأميركي وصداقتنا (اقرأ: تبعيتنا) للسيّد الإيراني، مع أن بينهما ما صنع الحدّاد، ولكن .. أليست السياسة فن المستحيل؟
وهكذا في كل دورةِ زمنٍ يحطّ عندنا، على نحو مفاجئ، ومن دون إخبار مسبق، مبعوثون من هذا السيّد أو ذاك، ونحن ممتنّون لكليهما بعد ما أسّسا لنا، ومن أجل سواد عيوننا، حُكما ليس له نظير على وجه الأرض، وجلبوا لتطييب خواطرنا كومةً من الأفّاقين والقراصنة واللصوص ليحكمونا ويتحكّموا فينا، وقد تفنّنوا في ترويضنا على مدى الأعوام العشرين، إلى درجة أننا أصبحنا، ورغم أنوفنا، راضين باستغلالهم لنا ولثرواتنا، قانعين بعبوديّتنا الطوعية لهم، شاكرين أفضالهم علينا وعلى بلادنا. وقد آن لنا اليوم أن نفخر أمام العالم بأننا نعيش في رحاب "دولة عميقة" أقامها سادتنا لتحرسنا ليل نهار في حماية "حشد مليشياوي" يحمل السلاح نيابة عنّا، ويرسم لنا طريق سيرنا ومصيرنا، وقد أدمنّا الحرص على أن نرضيهم ونخدمهم، وننتظر بركاتهم طول الوقت!
وقد حلّت البركة في ربوعنا الأسبوع الحالي بزيارة مبعوث البيت الأبيض، بريت ماكغورك، لنا ولقاءاته مع كبار مسؤولينا، على خلفية أن بلادنا من البقاع المهمة في العالم التي يعتبرها الأميركيون جزءا من مجالهم الاستراتيجي، والتي لا يمكنهم التخلّي عنها لأي طرف إقليمي أو دولي. وقد جاء ليذكرنا بأن بلاده أنفقت أكثر من تريليوني دولار في حربها، كما خسرت آلاف الجنود، وتريد أن نبقى تحت نفوذها إلى الأبد. وبحسب ما قاله مطّلعون على ما دار وراء الأبواب المغلقة، تحدّث المبعوث الأميركي عن استمرار وجود أكثر من 14 ألف عسكري أميركي في العراق تحت لافتة "المشورة والتدريب" سنوات، وربما لعقود. وذكّر تابعيه بما نصّت عليه مذكرة التفاهم السرية التي كان قد وقعها الطرفان في يونيو/ حزيران عام 2014، في عهد ولاية نوري المالكي الثانية، وكشف عنها رئيس الوزراء الأسبق، حيدر العبادي، في حينه، كما حذّرهم من استمرار دعمهم حكومة طهران، بخاصة في مجالات الاقتصاد والأمور المالية، وهدّد بأن استمرار ذلك سيدفع واشنطن إلى اتخاذ إجراءات من شأنها لجم عمليات غسيل الأموال ووقف الاستيلاء غير القانوني على الدولار لمصلحة إيران. وأفاد هؤلاء المطلعون بأن ماكغورك أبلغ رئيس الوزراء، محمد شياع السوداني، في ختام زيارته، وفي لهجة خشنة، بأنه سوف يسمع من الرئيس الأميركي، جو بايدن، في زيارته المقرّرة إلى واشنطن أكثر من ذلك!
عشرون عاما ونحن نعمل في خدمة سيّديْن في وقت واحد، إلى درجة أننا أدمنّا العبودية، وأتقنّا فلسفة الخضوع والركوع وتقبيل الأيدي وحتى الأقدام
وقبل أن تخفُت حرارة زيارة ماكغورك وسط طقس بغداد البارد، فاجأتنا زيارة لقائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، إسماعيل قاآني، وهو المفوض من دولة "ولاية الفقيه" لرعاية شؤون العراق، والذي اعتاد التسلّل عبر الحدود، في جنح الليل، متخفّيا خشية أن يشعر بقدومه الأعداء فيفعلوا به مثلما فعلوا بقاسم سليماني من قبل، خصوصا وأن عيونهم لا تفوتها شاردة ولا واردة، وقد جاء ليذكّر العراقيين، هو الآخر، بما يهم إيران تنفيذه، وفي المقدمة من ذلك تفعيل القانون الذي يقضي بعدم السماح ببقاء العسكر الأميركيين في البلاد، وليطلب من قادة المليشيات الضغط على حكومة السوداني، لتحقيق ما تعتبره طهران واحدة من أولوياتها في الإقليم الذي تسعى إلى الاستئثار به من دون منافس. وطلب قاآني أيضا إيجاد طريقة للإفلات من القيود التي وضعها البنك الفيدرالي الأميركي على التحويلات المالية إلى إيران، بعد الاتفاق الذي جرى في أثناء زيارة السوداني طهران، على رفع سقف الصادرات الإيرانية إلى العراق لهذا العام إلى ما قيمته 20 مليار دولار. وبالطبع، يشمل ذلك بضائع غير أساسية، ولا يحتاجها العراقيون، والمهم توفير العملة الصعبة للميزانية الإيرانية التي أرهقتها العقوبات.
ووسط لعبة شدّ الحبل هذه، يبدو السوداني في موقعٍ لا يُحسد عليه، خصوصا وهو يريد أن يرضي "السيّديْن" معا، ولا يسعى إلى إغضاب أحدهما. ولذلك فكّر في أن يركن إلى المعادلة التي اشتغل عليها رؤساء الحكومات الذين سبقوه، والعمل مع الطرفين مع المراهنة على عنصر الزمن.
ولكن هل تسلم الجرّة هذه المرّة، كما سلمت في مرّات سابقات؟ هذا هو السؤال الذي ربما يدور في ذهن السوداني، وهو على أبواب سفرة "تاريخية" إلى البيت الأبيض لا يمكن التنبؤ بنتائجها بسهولة.