أن تقرأ روائيّاً إسرائيليّاً عراقياً
رحمه الله صلاح حزيّن (2009)، كان مرجِعَنا، نحنُ أصدقاءَه، لمعرفة ما نريدُ أن نعرف عن الأدب الإسرائيلي وأعلامِه. وجاء صنيعاً كثير القيمة من صديقتنا الروائية حزامة حبايب أنها جمعت دراساته عن هذا الأدب، وأصدرتها في كتابٍ بعد رحيله "إضاءات على الأدب الإسرائيلي الحديث" (المؤسّسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2012). تأخُذُني إليه (الكتاب) حيرتي في أمر الروائي الإسرائيلي العراقي، سامي ميخائيل، البغدادي المولد، والذي توطّن في إسرائيل قادماً من منفاه في إيران في 1949 (قبل أُسرته)، يتوفّى الاثنين الماضي عن 98 عاماً، وهو متمسّكٌ بجنسيّته العراقية فلم يتنازَل عنها. يجعل بغداد فضاءً مكانياً لأربعٍ من رواياته الإحدى عشرة، ويخصّص خامسةً للعراق إبّان صدّام حسين. أسأل إن كان هذا الحال الذي أقام عليه هذا الكاتب الذي ترجم ثلاثيّة نجيب محفوظ إلى العبرية يخصّه وحدَه، أم ينسحِب، ولو إلى حدٍّ ما، على غيرِه من كتّابٍ إسرائيليين عراقيين. أجد عنوان الفصل الأخير من الكتاب "أدباء إسرائيل من يهود العراق" في 50 صفحة، يُخَصّص قسمٌ منه للروائي سمير نقّاش (2006) الذي لا تختلف "عراقيّته" كثيراً عن مثيلتها لدى سامي ميخائيل.
مما أقرأه عند الصديق الباقي، صلاح حزيّن، أن هجرة يهود العراق إلى إسرائيل لم تكن شبيهةً بهجرات أيٍّ من الجاليات اليهودية الأخرى، فقد كانت إجباريةً إلى حدٍّ كبير. وأقرأ أن لليهودي العراقي ارتباطاً بوطنه العراق لا يقلّ عن ارتباط العراقيين الآخرين من مسلمين ومسيحيين، وأن استجابة العراقيين اليهود لدعوات الحركة الصهيونية للهجرة إلى إسرائيل لم يكن كبيراً، في المرحلة الأولى، ما دفع الصهاينة الأوائل إلى تدبير عمليات تفجيرٍ في مصالح يهودية في بغداد وغيرها لإشعار أولئك بعدم الأمن والأمان، فتتابعت هجراتُهم، وكان منهم الطفل سمير نقّاش الذي صار تالياً "روائياً عراقياً في إسرائيل"، كما كان يحبّ تقديم نفسه. ويأتي صلاح على "تقدّمية" الأدباء والمثقّفين اليهود العراقيين الذين توطّنوا في إسرائيل، سياسياً وثقافياً، غير أنها صارت تضعُف لاحقاً، بعد أن اندمج هؤلاء بالحياة الأدبية الإسرائيلية أكثر، فغادَر منهم الكتابة بالعربية إلى العبرية، ومنهم سامي ميخائيل الذي كان ينفي أنه فعلََ هذا نوعاً من قمع الذات الثقافية، وظلّ يقول إنه لم يغيّر ثقافَته، وإنما أراد "دمج اللغة العِبرية مع الشحنة الروحانية المناضلة التي استمدّيتها من العراق". وأقرأ في الكتاب أن رواية ميخائيل "فيكتوريا" (1995) ظلّت أعواماً من الأكثر مبيعاً في إسرائيل، وهي عن يهودٍ في العراق قبل الخمسينيات. وكما رواياتٍ أخرى له "تحمل نوعاً من الحنين إلى الوطن السابق"، بتعبير صلاح.
لافتٌ أن رواية سامي ميخائيل الأولى، وقد كتبها بالعبرية، "متساوون ومتساوون أكثر" (1974) تنشغل بالتمييز بين اليهود الغربيين والشرقيين في دولة إسرائيل، عبر حكاية عائلةٍ يهوديةٍ عراقية، تقيم في مخيّمٍ على أنقاض قريةٍ عربية. ولافتٌ أن موضوعة هذا الكاتب التي لازمت أغلب نصوصه كانت عيشَه بين ما يشبه عالميْن على بعض التناقض، والتباساتِ حالته، وهو الذي لا يرى نفسَه، على مستوى أيديولوجي، صهيونيّاً، وفي الوقت نفسه، لا يعادي الصهيونية، هو المُثقل بذاكرةٍ عراقيةٍ وقد غادر بغداد في الثامنة عشر عاماً من عمره، ولا يغادر جنسيته الأصل، ثم صار يحبّ إسرائيل أولاً بأوّل، ويراها وطنَه، وإنْ ثمّة ظلالٌ من حالة اغترابٍ يُغالبه فيها، أو في مجتمعها العام. هذا مع دعوته الملحّة إلى دولة فلسطينية مستقلّة، ورفضه العنف وأن تبقى إسرائيل دولة حرب. ويحاول أن يكون رسوليّاً، وهو يشتهي علاقاتٍ عربيةً إسرائيلية (يهودية) بلا حروبٍ وصراعاتٍ وقعقعات سلاح. لقد أمضى 22 عاماً رئيساً لجمعيةٍ حقوقيةٍ في إسرائيل. واختير عدّة سنواتٍ عضواً في محكمة العدل العليا في الدولة العبرية للبتّ في مسألة التعليم والتعدّدية الثقافية.
ثمّة موضعٌ للحيرة في أمر سامي ميخائيل وزميله سمير نقّاش (وآخرين من كتّاب إسرائيل اليهود العراقيين)، حيث التعاطفُ مع الفلسطينيين والنفور من عنف إسرائيل وشحنةٌ من نوستالجيا تجاه العراق (وبغداد) القديم. أن تقرأ لسامي ميخائيل يعني أن تقترب من مستوىً شديد الخصوصية في مسألة الهوية. ... تنجو من حيرةٍ كهذه لمّا تقرأ رواية العراقي الذي اغتيل في 2019، علاء مشذوب، "حمّام اليهودي" (دار سطور، بغداد، 2017)، يرفض بطلها اليهودي العراقي الهجرة إلى إسرائيل، ويديرُ حمّاماً شعبيّاً يمتلكُه في كربلاء. ... لماذا لم يفعل سامي ميخائيل شيئاً مثل هذا؟