أن تكون هادئاً في عالم مضطرب
لا أبحث بالقطع عن ذلك اللون الرمادي لروحٍ تتصيّد الحياد كي تتنعّم بخيرات مكاسبها بعيدا عما نعيشه من أحداثٍ فرضتها النزاعات على مائدة العالم، ابتداءً من أعلاف الطيور والمواشي حتى طبق الفول، وهو الوجبة اليومية المعتادة لملايين المصريين، ولا أبحث عن ذلك الهدوء الممقوت في استديوهات الإنتاج للمسلسلات السنوية من التهريج والسخافات و"رمي الجتت"، وتحويل كل فكرةٍ إلى ما تحبّه السلطة وترغبه.
ولا أبحث عن ذلك "الدانوب" السطحي جدا والساذج، بعيدا عن احتياجات المصري العادي الذي ينتظر أمله بالسنّارة على شاطئ النيل، ولا أبحثُ عن ذلك الهدوء في عيون الممثلات، بعدما قبضن العرابين، وذهبن إلى شرم الشيخ كي يغنّين لعجلة الإنتاج ولذلك الأمل الغامض القادم بالأحضان بشرط "أن نصبر وسوف نرى ذلك العجب العُجاب". ولكن أبحث عن ذلك الحزن الهادئ لذلك الحجّار في قرية بني خالد، وقد ربط بخيط "عدّة الشغل" بعدما عاد من غير شغل من المحاجر، وظلّ هادئا يستمع لصيّاد يمامٍ بالقرب من البحر، يتأمل غيمةً ويتعجّب من سعر كيلو البامية في الأسواق. وأبحث عن هدوء التاجر وهو يقلّب أكياس البلاستيك الفارغة، بعدما قلّت الغلال في "أرض الشواني"، وذهبت العصافير وندُر حشيش الغيطان في الأسواق. أبحث عن ذلك الهدوء الذي تراه على محيّا صاحب مطعم طعميّة، يقف هادئا أمام أدوات شغله من دون أن تزعجه أسعار البورصة ولا ارتفاع ثمن غرام الذهب ولا ثمن طن حديد التسليح عن بندر أو عز أو المصرية للحدايد والبويات، فقط يقلب في الأقراص، ويمسح عدسات نظارته.
أبحث عن عمّال الإسعاف وهم في عملهم من دون أن يسألوا أنفسهم عن تلك الأرقام المهولة التي يحصل عليها الممثلون والممثلات كـ"عرّابين شغل"، من مدن إنتاج المسلسلات والدراما.
أبحث عن فلاحين هناك، يميلون بظهورهم لجمع البطاطس أو لحصاد القمح بجوار آلات الدريس.
أبحث عن بيّاعات "النبق"، وهنّ صامتات أمام مقاطفهن من دون أن يفارقهن الأمل أو الضجر من الشاري الطمّاع، رغم أن في كل يد من يديه ترى إصبعا، أو اثنتين أحيانا، فيه ذلك الخاتم من الذهب، والذي تقترب زنته من عشرة غرامات.
أبحث عن عيون الأمل في عيون أطفال السودان الطيب أمام كاميرات الفضائيات، وكل جنرالٍ هناك وراء دبّاباته أو سياراته السريعة المعدّة أو طائراته، فكيف تحوّل الجنرالات إلى تجّار حربٍ في عالم شرق أوسطي مسكين، يقترب من حافة الفقر، بينما عتاة المروّجين للأمل والصفقات، هناك وراء أشجار قصورهم ينتظرون من يُنهي الجولة بالغلبة، ويعطي مصير السودان لمشاريعهم وطموحهم السياسي هناك، وكأن السودان قد صار مزرعةً خلفية لأصحاب رؤوس الأموال الغامضة والمتعفّنة هناك في البنوك.
أبحث عن عيون هؤلاء العجزة المحالين منذ سنوات إلى المعاشات بالملايين، وفي أيديهم كروت ماكينات الصرف، ويسألون في حياء: "هو صحيح معاشات مايو جعلوها مبكّرة"، فتردّ أنت بأن ذلك صعب، من دون أن تجرح رغبة صاحب السؤال الطيب، ومن دون أن تعرفه أو يعرفك، ولكن صورته وهو يزكّ على عكّازه تظلّ تمثل لك صورة الصبر الجميل الطيب في عالمٍ لم يعد له أي سقف في القسوة أو الحرب أو امتلاك القوة وتوجيه العالم إلى ذلك العنف الذي لا نعرف له أي غاية مباشرة أو أي أملٍ سوى الاستحواذ على السلطة في أيديهم وحدهم وحرمان الملايين من أي شعور بالأمن أو السكينة كبشر خلقهم الله في ذلك الكوكب.
أبحث عن ذلك الأمل الهيّن لفقيرات النسوة في ليلة العيد وهن يبحثن لأطفالهن عن قطعة أو قطعتين من الملابس المستعملة بجوار أسوار الاستاد الرياضي. أبحث عن ذلك الهدوء الطيّب في جبهات تجّار الليمون أو برطمانات الليمون وصبية المقاهي الشاردين، حينما تغلق سيارات الشرطة أبواب المقاهي، تحسّبا لما لا تُحمد عقباه، بسبب تلك الأزمات المتلاحقة وارتفاع الأسعار الجنوني الذي ضجّ منه حتى من نال منهم درجةً ما من الستر من سنوات.
أبحث عن تلك السكينة في عيون البنات وهن يسِرن في طرقات المدينة لحصّة الكيمياء أو الطبيعة، كي ينلن الدرجة ويجدن مقعدا في الجامعة، بعيدا عن ملايين الجامعات الخاصة التي هي بالملايين أو العملة الصعبة. أبحث عمّن يبتسم في غرابة وحنوّ للغيطان أمام ماكينات الري، أو برّاد الشاي، من دون أن يفقد الأمل في كرم النيل والله.