أن تُحاور الصحافة الطغاة... الأسد نموذجاً؟
صحيحٌ أنها ليست "خبطةً" صحافيةً لقناة سكاي نيوز عربية المقابلة التي أجرتها مع بشّار الأسد، وبثّتها الأربعاء الماضي، ولكن هذا لا ينفي أنها كانت مهمّة، وأفادت ببعض الجديد الذي كان يلزَمنا أن نعرفه، رغم المعلوم المعهود في رئيس النظام في دمشق، مكابراتِه وأوهامِه عن نفسِه واختراعِه الأكاذيب التي يشاء ودجلِه عن إرادة الشعب السوري وعن محاربته الإرهاب. ومع درايتنا بأن الرجل لم يُبدِ يوما، منذ قطيعة الدول العربية معه في 2011، حرصا على عودة العلاقات العربية معه، وإنه لم يُبادر إلى أي خطوةٍ في هذا الاتجاه، صدورا عن قناعته بأن الذين قاطعوه هم الذين عليهم أن يعودوا إليه، مع درايتِنا بهذا، وبما هو موصولٌ به، جاء إلى أفهام بعضِنا أنه قد يعمَد إلى بعض المجاملة، فلا يوحي بأن عودة بعض العرب إليه ليست حدَثا، وليست أمرا يستحقّ احتفاءَه به. بل زاد على هذا بذمّ جامعة الدول العربية، وبأن دولا عربيةً ساندت الإرهاب في بلده. وكاد يجهر برفضِه عودة أي لاجئٍ سوريٍّ إلى منزله في بلده قبل "إعادة الإعمار" التي على هذه الدول وغيرها تأديتُه في سورية. وبهذا، وغيرِه، كانت المقابلة التلفزيونية ناجحةً مهنيا، بدلالة ما أحدثته من اهتمام سوري وعربي بالذي قاله الأسد فيها. وإذا قال قائل إن لا مفاجأة في الذي انكشف فيها، فذلك، إن كان صحيحا، لا يلغي أهمية أن الذي قيل فيها صدَع به رأس النظام في سورية، وليس غيرَه.
قد يكون ضروريا أن لا يُغفَل عن أن "سكاي نيوز عربية" تستضيفها أبوظبي، شديدة الحماس للتطبيع مع نظام الأسد، وكانت من أوائل المبادِرين في هذا المسار، وأن لا يجري التعامي عن السياسة التحريرية للمحطّة نفسها، لكن هذين الأمريْن نافلان عموما، فالمهمّ ماذا سأل الصحافي المحاوِر ضيفَه. وهنا يحسُن تثمين بعض أسئلة الزميل فيصل بن حريز (وإن ادّعى أن هذه المقابلة هي الأولى للأسد مع قناةٍ عربيةٍ منذ العام 2011، وهذا غير صحيح). وحدَث أن حاورت الأسد صحيفتا الصنداي تايمز ونيويورك تايمز وقناة سي إن إن وغيرها من صحف وقنوات غربية لا تمحضُه أيَّ ودّ، ولا تحيد، في مقالات الرأي والتعليقات الإخبارية فيها، عن نعته بالديكتاتور. وقياسا، لا يبدو في محلّه القول إن مقابلة "سكاي نيوز عربية" مع الأسد كانت لتلميعه، أو لتوفير منصّةٍ دعائيةٍ له، وإن أفاد منها بداهةً، كما المحطّة التلفزيونية عندما تناقلت وكالات الأنباء أبرز الذي قالَه لها الأسد في قصر المهاجرين في دمشق.
وهنا، بعيدا عن حيثيّات "سكاي نيوز عربية"، وعمّا لا نعرفه عن المذيع الذي حاور الأسد، يُسوَّغ سؤالٌ ما إذا كان من ضرورات المهنة الإعلامية أن نقابل، نحن الصحافيون، الذين نناهض الطغيان والاستبداد، الطغاة الذين نناوئ اغتصابَهم السلطة واستهتارَهم بحقوق شعوبهم بالخلاص منهم، في محاوراتٍ صحافيةٍ نسألهم فيجيبون؟ هل نناقضُ في هذا مواقفنا وخياراتنا؟ نخالف السياسات الأميركية في غير شأنٍ وأمر، غير أنني، إذا أجالس الرئيس بايدن، لا أكون غادرتُ مواقفي منه، وهو، في كل حالٍ، ليس في عداد الطغاة المستبدّين. والقول هنا، من قبلُ ومن بعد، إن أولى وظائف الإعلام، التقليدية والمؤكّدة والباقية ما بقي البشر، إبلاغ الجمهور العام بجديد الأخبار. وكل من هو في موقعٍ مسؤول مصدرٌ للأخبار والمعلومات، والبراعة المهنية تتبدّى في المقدرة على أن أجعلَه يجيبُ عن أسئلتي، المفترَض أن لا تُحابي ولا تُمالئ، بما يضيءُ على قديمٍ ويوضحُه، أو بما يأتي بجديدٍ غير معلوم، غير معلنٍ بعد، أو لم يتأكّد بعد. وبشّار الأسد (وغيرُه ممن تنعُم دولٌ عربيةٌ بظلالٍ وارفةٍ من عطاءاتهم!) ساقته نوائبُ التاريخ وأقدارٌ تعيسة في سورية إلى أن يصير في الموقع الذي يمكُث فيه منذ نيّفٍ وعشرين عاما إلى ما شاء الله. ولذلك، ثقيلٌ على النفس أن تُجالسه إن كنتَ من أهل الإعلام الذين ينتصرون للشعب السوري، غير أن للمهنة إكراهاتِها، وهذه مفردةٌ أستحسنُ هنا استعارتَها من أصدقائنا المغاربة، وهي بالغة الدلالة في المقام المتحدَّث عنه، ويسّرت "سكاي نيوز عربية" مناسبة السطور أعلاه عنه وعن حواشيه.