أهل الفن حينما يقلّ الطلب
كانت لزرياب في الأندلس 365 ثوبا كما قيل من الحرير والدمقس والصوف وغيره، وكانت أثوابه موشّاة بخيوط الذهب كما قيل أيضا، وكان الغناء في الأندلس بوابةً للفرح للحاكم والمغني معا، لا ناقة زرياب تعبت من أثقالها، ولا من نقص الكلأ ولا اللحن بخل على عوده ولا أصابعه، ولا جوقة الجاريات هربت من أي طائلةٍ بعد أي حرب، ولا مطبخُه تعطّل عن العمل.
فائض الدلال في ممالك العرب، ورقص الأمراء أمام السرايا في الحب والغندرة والصيد والقنص وعودة الأحبة من البلاد البعيدة بعد غربة لطلب العلم أو الجاه، أو لملاقاة خراج المدن فوق ظهور الجمال، وقصائد تلقى على الأعتاب أو في الخيام، ورسائل عيون الجواري تزيد حلاوة الشعر بألعاب التأويلات والرموز والمودّة، وتزيد العطايا، فما الذي تعطّل في الملك أخيرا؟ لا رسائل من قرطبة، هل هي الحرب، أو هي القرصنة، أو هو الجوع القادم بعدما زاد سعر الحبوب؟
صار المسلسل هو غناء القوافل، والممثل هو نيابة عن الهلالي، و"التتر لمسلسل التلفزيون في رمضان" هو "العقلية"، وهي في خيمتها تسقي حمامها الأزرق، والملحّن هو شادي الليل وشريك السياسي في الصفقة، كي ينتظر رمضان ويأخذ العطية من البنك. عليه أن ينتظر الحرب في المسلسل، والدولار من المسلسل، كي يقدّم للملك التحية في صفٍّ طويل، كي يجود عليه رمضان المقبل بمسلسل، أو بلقاء تلفزيوني يبكي فيه من قسوة الأولاد ودلع البنات بملايين البنوك والفيلات التي بناها من دموع تمثيله خلال رحلة العمر، وتبكي من ورائه الجماهير من قسوة البشر، كي ينتهي الليل، وتنفكّ الأزمة ويتسلّى الناس في أزمنة الحرب، حيث لا حرب ولا حبوب في الوادي الضيق جدا المدفون في الصحراء، بل خوف على النيل ونقص المياه وجفاف الزرع، ولكن زرياب دائما له طلب، وأثوابه معدّة كل يوم من أيام السنة.
اعملوا أي حرب. المهم أن يظل المسلسل مستمرّا، وألا تنتهي الحرب، رغم أن لا حرب عند زرياب، وأثوابه مكتملةٌ طوال السنة، ولكنه التمثيل بعدما ماتت الحياة نفسها في الشارع. إذن، اخترعوا الحرب في كل يوم، كي يتخيّل الناس أننا في خطر كل يوم، ونحارب كل يوم، ونموت كل يوم، دقّوا طبول الحرب في كل مسلسل وفي كل فيلم وفي كل أغنية وفي كل لحن، فنحن نعيش أيام الحرب على الورق، والعالم مشتعلٌ.
قفوا في صفوف، وهاتوا حتى سيد درويش كي يقف معنا ويلحّن الأناشيد لنا، فنحن في خطر. هاتوا حتى عشيقات سيد درويش وقفاطينه في الصفّ، ولا مانع من أن يقف في الصفّ بجوار المطرب والملحن محمد عبد الوهاب، ولا مانع من أن يكون برتبة لواء أيضا وبجواره منيرة المهدية، حتى وإن عقد اجتماع مجلس الوزراء في بيتها لضرورة، ولا مانع من أن تقف في الصف أيضا بلباس عسكري وبندقية، حتى وهي في عوامتها على النيل، فنحن في حرب، وسيد درويش يعدّ لحنا عن الحرب، ومحمد عبد الوهاب يغني لحنا تعبويا أيضا عن الحرب، وأم كلثوم تكلم رامي في أمر أغنيةٍ عن الحرب.
لا بد أن تتقارب الصفوف في صفٍّ واحد، كي نقول للشعب الناس كلها معنا ضد هذا الشرّ وأهله، وضد الذي يريد أن يبيع النيل والنخيل والهرم وقناة السويس وخوفو وخفرع ومنقرع وكل السمك، لا بد أن تتقارب صفوف كل أهل الفن معنا، من أجل بقاء الوطن آمنا، فالأمن هو كل شيء، وأهم من أطنان الفلوس والمليارات، "رغم أن أهم حاجة عندي الفلوس". ولا بد حتى من وصلتين لأم كلثوم معنا في ليلة العيد، ولا مانع حتى من وجود الملك، بشرط أن يُحضر لنا أحفادُه صكّا قديما، كان الملك ينتَوي أن يبيع من خلاله قصر عابدين لرجل أعمال ثريّ في منتصف الأربعينيات من القرن الماضي، والقصور عندنا كثيرة وسنبني ونبني ونبني. المهم أن يكون أهل الفن في صف واحد تحت راية العلم في كل رمضان. ولا مانع من وجود "الاختيار 4"، و"الاختيار حتى 16"، المهم أن نعمل حتى ينام أهل الشرّ في سراديبهم حزانى، حتى لو دخل علينا الملك فاروق نفسُه. المهم أن يكون بزيه المدني، ولا مانع أيضا من أن تغني أم كلثوم "أربع وصلات"، ويغني بعدها محمود شكوكو حتى "ادّيني بقرش لبّ عشان أعرف أحبّ"، المهم أن يدفع "قرش الدولة"، ويغني براحته أو حتى في أيٍّ من أجزاء "الاختيار"، في خطط إنتاجها لعشرين سنة مقبلة، ولا مانع من وجود سيد مكّاوي في صف أهل الفن بعوده مع زكريا أحمد، وبجوارهما كامل الخلعي. المهم أن تبعدوا مكان وقوف الست منيرة المهدية عن مكان الست أم كلثوم "عشان متحصلش مشاكل"، لا قدّر الله.