أوبئة وحروب وجفاف وأحجار جوع
لم يجد بعض الصحافيين في العالم أن أخبار الجفاف الحاصل في أوروبا تكفي لإظهار أن شعوب بلدانها مقبلة على مستوى جديد في أزمة يعانون منها منذ الهجوم العسكري الروسي على أوكرانيا، قوامها ارتفاع أسعار الغذاء، مسبوقاً بمثله حيال مواد الطاقة كالغاز والمشتقات النفطية.
لهذا، رأوا أن القصة الصحافية تحتاج إلى عناصر أكثر إثارة، تتناسب مع الصور المزعومة عن جفاف أنهارٍ كبيرة، كالراين والسين والدانوب، فذهبوا إلى الضخّ في حكاية "أحجار الجوع"، وجعلها عناوين رئيسة في تقارير تخرج من قراءتها، وقد امتلأت بأعلى مستويات التشاؤم والقلق من أن العالم فعلاً يمضي صوب الهاوية. يكرّر مروّجو قصة الأحجار ما يعرفه العالم عنها، فهي نصب وأحجار منتشرة في ألمانيا وبعض بلدان وسط أوروبا، نُشرَت في أوقات متعدّدة على ضفاف مغمورة لبعض الأنهار، لا تظهر إلا حين ينخفض منسوب مياهها، كتب فوق بعضها وكنوع من التحذير من خطر المجاعة بعد وقوع الجفاف: "إذا رأيتني إبْكِ"!
لكن هؤلاء يزيدون من عناصر صناعة الهلع، فيسقطون تاريخ نقش مثل هذه العبارات، ولا يذكرون، في السياق، تكرار ظهورها في أوقات مختلفة من التاريخ، ويركّزون على أن هذا الذي ظهر الآن، إنما هو القدر الذي حذّرت الديانات السماوية والأرضية من وقوعه، أي فناء الحياة!
هنا، ونحن نقرأ الصياغات غير المتزنة لمثل هذه التقارير، نتذكّر أننا نعيش في زمن عُصابي، يحتاج إعادة تقويم، ومعالجة سريرية ربما، من أجل فهم الأرضية التي يجري من خلالها ترويج مثل هذه المعتقدات، وأيضاً ربط كل ما يجري بالنزوع العام نحو الشعبوية، وإدراك سرّ تكرار المنطق الكوارثي في تحليل ما حدث ويحدث.
نموذج كاره للجميع بات حاضراً، وإن بصيغة مخففة، على شاشات المحطات التلفزية والإذاعات
في أوروبا التي وقعت ضحية السياسات البوتينية (نسبة إلى بوتين) المغامرة، من الطبيعي أن يجد الزائر، وبالطبع المقيم نفسه، في مواجهة مع أحد ما يروّج فكرة غرائبية غير متوقّعة. وعلى سبيل المثال، تكرّر أمامي في بعض المجالس حضور سردية أن بلداً راسخاً في الديمقراطية كفرنسا سيكون عرضة لحدوث حرب أهلية خلال مدة أقصاها خمس سنوات!
وفي التفتيش عن خلفيات من يكرّرون مثل هذا الادّعاء، تكتشف أنهم يميلون فكرياً وسياسياً صوب اليمين المتطرّف، ويزايدون على ممثليه السياسيين، حتى كزعيمة الجبهة الوطنية، مارين لوبان، ومنافسها الفكري الصحافي إريك زيمور.
"الفرنسيون في حالة خطر شديد بسبب سياسات السياسيين. ولهذا عليهم أن يقوموا بما هو مطلوب، وألا يبقوا يمشون كالخراف وراء حكومة ماكرون"! سمعت هذا القول مباشرةً من أحد الفرنسيين وضع قلادة رأس ذئب على عنقه، وكان يجرّنا في حديثه شرقاً وغرباً على بساط ريح المؤامرة التي لن تتوقف منذ عشرات السنين، ويقودها أصحاب النفوذ والسلطة بالتحالف مع رجال المال، من دون أن ينسى إعلان العداء لليسار ولليهود في آنٍ واحد، لتكتمل حقيبته الذهنية المعتادة أمام من يبثّهم أفكاره!
هذا الرجل الكاره للجميع بات نموذجاً حاضراً، وإن بصيغة مخففة، على شاشات المحطات التلفزية والإذاعات. ويمكن من يقابل أمثاله أن يضع قاموساً مختصراً لكلامه، وأيضاً للمنطق الذي يحكمه، وخصوصاً الميل الفاقع نحو الإعجاب بالقادة الحازمين الحاسمين، فهؤلاء من المعجبين جداً ببوتين، ويغبطون أفعال بشّار الأسد، ولا مشكلة لديهم مع ما يجري في العالم من كوارث سياسية وإفلات عام من العقاب، طالما أن الأخطار التي تنتج من هذا ستبقى في مناطق حدوثها. وضمن هذا السياق، لن يكونوا بالتأكيد من المرّحبين بأي مهاجر إلى فرنسا أو غيرها.
هذا العالم بقواه السياسية، بكارتلاته المالية المتحالفة، لا يريد للحقيقة أن تظهر!
تزويد هؤلاء بالحطب اللازم لإشعال الكوارث العظمى، يبدأ بالميل العام نحو ضرورة اتباع سياساتٍ إلزاميةٍ قاسيةٍ تجاه المهاجرين، ولا ينتهي بالضخّ في أي حدثٍ بمنفاخ الهوس القيامي (ترقب القيامة)، الذي يأخذهم من آذانهم إلى رؤية وقوع الكارثة العظمى، غداً أو بعد غدٍ على أبعد تقدير، كيف لا يكون الأمر حقيقياً بالنسبة إليهم مع تتالي أحداثٍ مرعبةٍ كالأوبئة، والحروب القريبة، والجفاف؟!
يحتاج هؤلاء أيضاً إلى علامات محرّضة تجعل القدر حاضراً ليس بوصفه حالة غيبية فقط، بل بوصف التحذير منه عملاً مطموساً لا يُراد له أن يُرى، لكن القوى الغيبية المساعدة جعلته مكشوفاً، ليتبيّن أمام عيونهم أن القدماء عرفوا الحقيقة والأسرار، فحذّروا مما سيحصل، لكن هذا العالم بقواه السياسية، بكارتلاته المالية المتحالفة، لا يريد للحقيقة أن تظهر!
يُدرك صنّاع الأخبار أن أخباراً تلعب على مثل هذه الأوتار لا بد أن تلقى رواجاً عظيماً في بيئاتٍ لا تزال عرضة للتجهيل، فيكسبون من ورائها مشاهداتٍ ومتابعاتٍ عالية، وهم يظنّون أن قدرتهم المهنية العالية على تكييفها كما يشاؤون تخفّف من حدّتها وتأثيرها. لكن يغيب عن هؤلاء أن قلع المسامير بعد تثبيتها يترك في مكانها ثقوباً صغيرةً، ستمتلئ بكل ما يمكن تخيّله من أفكار غرائبية، ويمكن ببساطة أن يخرج منها مجموعة من المسلحين الكارهين للبشر، يطلقون النار صوب الأعداء.