أوطانٌ عربيةٌ ابتُليت بجيوشها
تستجدّ الأسئلة بشأن المآلات التي يمكن أن تنعطف إليها علاقة الجيوش العربية بالسياسة مستقبلا، في ضوء الصراع الذي تفجّر في السودان، نهاية الأسبوع الماضي، بين الجيش الذي يقوده رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع التي يتزعمها محمّد حمدان دقلو (حميدتي). وهو الصراع الذي يؤكّد، مرة أخرى، دور هذه الجيوش في تغذية الصراع على السلطة والاحتراب الأهلي وإعاقةِ التحوّل الديمقراطي، من خلال استغلال تناقضات المعارضات المدنية، وتسخيرِ العصبيات القبلية والعشائرية والطائفية لمصالحها.
في ضوء ذلك، تبدو الأزمة الحالية محصّلة للصراع من أجل إعادة تموضع القوى الرئيسة في المشهد السوداني؛ قوى المعارضة الثورية التي تعرف انقساما بين مكوّناتها وتباينا في طروحاتها بشأن خريطة الطريق الكفيلة بإنجاز التحوّل نحو الديمقراطية، والمجلس العسكري الذي يجسّد الدولة العميقة بكل مخاوفها من أن يُفضي المسار الانتقالي إلى بناء حكومة منتخبة ضمن أولوياتها محاكمة المسؤولين عن قتل المتظاهرين خلال الثورة الشعبية التي أطاحت حكم عمر البشير (2019)، وقوات الدعم السريع التي تحكمها طموحات زعيمها في لعب دور سياسي أكبر في المستقبل، وأخيرا فلول نظام البشير التي تُحاول إعادة رصّ صفوفها وخلط مزيد من الأوراق في المشهد السوداني، بما يزيد من فرصها في العودة إلى السلطة، أو على الأقل إيجاد موقع لها في المشهد السياسي الذي كان يُتوقّع أن يتشكّل بعد الانتهاء من التفاوض على خطوطه العريضة بين المجلس العسكري وقوى المعارضة الثورية.
ليس الاقتتال الدائر في السودان إلا تحصيل حاصل في بلدٍ ظلّ فيه الاستثمار في الجيش عصبَ الصراع السياسي والاجتماعي منذ الانقلاب الذي قاده الفريق إبراهيم عبود (1958). وطوال العقود الماضية، بقي هذا الجيش أحد أكثر الجيوش العربية تسيُّسا في المنطقة، وأكثرها قدرة على تسخير الموارد والمقدّرات الوطنية لمصلحة قياداته ضمن توازناتٍ قبليةٍ وجهويةٍ كانت، في أحيانٍ كثيرة، هشةً، وكلفت السودان انفصال جنوبه (2011)، وتزايد الحركات المتمرّدة. ولا شك أن هذا الجيش يدرك حجم تطلعات الشعب السوداني نحو الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية بعد نجاح ثورته الشعبية في إطاحة حكم البشير. ولذلك حاول جاهدا، في السنوات الثلاث المنصرمة، توسيعَ هامش المناورة أمامه، وربح مزيدا من الوقت في مواجهة قوى إعلان الحرية والتغيير، ولا سيما بعد فشل الموجة الثانية من الربيع العربي وانحسار مدّ الاحتجاجات الشعبية في الإقليم.
يزداد الوضع تعقيدا في السودان، وتتضاءل فرص إنجاز تحوّل ديمقراطي متوافَق عليه بعد تفجّر الصراع بين البرهان وحميدتي اللذين فشلا في التوافق على حزمة بنود في اتفاق الإطار الذي تمَّ التوقيع عليه في ديسمبر/ كانون الأول المنصرم، وفي مقدّمتها ما يتعلق بإدماج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة. ففي وقت طالب فيه الجيش بإدماجها في صفوفه خلال أجلٍ لا يتعدّى سنتين، بالتوازي مع المسار الانتقالي، كان حميدتي يتخوّف من أن يشكل هذا الإدماج مقدّمة للتخلص منه، وتفكيك قواته التي تشكّل مصدر قوته السياسية، وطالب بإدماج متدرّجٍ لقواته في الجيش، بما يمنحه هامشا للتأثير في المسار الانتقالي وتوجيه تحوّلاته وفق طموحاته الشخصية. وأمام هذا الوضع، تجد قوى المعارضة نفسها عاجزة عن إنهاء الاقتتال وحقن دماء السودانيين وإيجاد مخرج للأزمة. وهو ما يعقّد المشهد أكثر، ويُنذر بانتكاسةٍ قد تعيد نظام البشير إلى السلطة، بصيغة أو بأخرى.
تعيد الأحداث الجارية في السودان طرحَ أزمة الجيوش العربية التي يحفل تاريخُها بما يكاد لا يحصى من الانقلابات والانقلابات المضادّة. هذه الجيوش التي وقفت عاجزة، في معظم الأحيان، عن الذود عن حرمة أوطانها في مواجهة أعمال العدوان الخارجي، وفي مقدمتها التي شنّها الكيان الصهيوني منذ اغتصاب فلسطين. لكنها، في المقابل، كانت، في معظم الأحيان أيضا، أدواتٍ في أيدي الحكّام والأنظمة والعائلات المالكة ومراكز القوة والقبائل والعشائر والطوائف المتنفّذة لقمع شعوبها ونهب ثرواتها.