أوكرانيا الإسرائيلية: عن رؤية زيلينسكي للمستقبل
منذ بداية الحرب الروسية على أوكرانيا، أعرب الرئيس الأوكراني، فلاديمير زيلينسكي، اليهودي الديانة، في أكثر من خطاب، عن إعجابه بدولة إسرائيل، واصفًا مستقبل بلاده بالقول إنّ أوكرانيا ستصير أشبه بـ"إسرائيل كبيرة"، مع تصدّر الأمن قائمة الأولويات في السنوات العشر المقبلة. والقول هنا، إذا أُخذ بحذافيره، يعني أن أوكرانيا ستصبح كإسرائيل من حيث تصدّر الأمن الأولوية القصوى فيها، إذ تُشبه الأخيرة ثكنة عسكرية كبرى، أو حاملة طائرات ثابتة بحسب قول الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان، إذ إن كل رجل وامرأة في دولة الاحتلال هو جندي عامل أو احتياط، وتُمثّل موازنة الأمن في إسرائيل خُمس الموازنة العامة (بواقع 21 مليار دولار)، بحسب مجلة Israel Defense المختصة بشؤون الدفاع. لذلك، لا يمكن الفصل بين المدني والعسكري فيها، لأنها تعتمد، بالدرجة الأولى، على الأمن والحفاظ عليه بوصفه عاملًا رئيسًا للبقاء في محيط عربي معادٍ لها، حيث يسمح أي خلل في منظومة الأمن من تمكّن فلسطيني أو عربي من تنفيذ عملية فدائية داخلها.
وعليه، إذا أُخذ تصريح الرئيس زيلينسكي على حده، فإن دلالته من المقارنة الإشارة إلى الاحتياجات الأمنية لأوكرانيا الشبيهة باحتياجات دولة الصهاينة. وفي الحالة الأوكرانية بعد الغزو الروسي، يعتقد زيلينسكي أن بلاده أصبحت عرضةً للتهديد، وحالها يشبه الحالة الصهيونية في فلسطين المحتلة، ورغم الفارق بين الحالتين من حيث النشأة والإقليم والجيران، وغيرها من العوامل، فإن الخلفية الثقافية والدينية، وربما الأيديولوجية للرئيس زيلينسكي، تجعله صهيونيًا في ثوب أوكراني. والرجل لا يُخفي انتماءه للصهيونية، وهذا ما يجعله يتذكّر الدولة الأقرب إلى عقله، وهي دولة الصهاينة في فلسطين المحتلة، حيث يعتبر نفسه، بشكل أو بآخر، جزءا منها، وهي لا شك النموذج الذي يسعى إليه. وهذا التصريح لم يكن الأول لزيلينسكي، إذ سبقته تغريدة عبر "تويتر" في أثناء العدوان الصهيوني على غزة في مايو/ أيار 2021، عبّر فيها عن تعاطفه مع الاحتلال الإسرائيلي: "سماء إسرائيل مغطّاة بالصواريخ. بعض المدن مشتعلة. ثمّة ضحايا وجرحى كُثر. العديد من المآسي البشرية. من المستحيل أن ننظر إلى هذا كله من دون حزنٍ وأسى. من الضروري وقف التصعيد على الفور حفاظًا على حياة الناس". وفي خطابه الذي ألقاه عن بعد أمام طلاب الجامعة العبرية في القدس المحتلة يوم 23 يونيو/ حزيران 2022، أشار زيلينسكي إلى العلاقات التاريخية بين إسرائيل وأوكرانيا، لافتًا إلى أن المنزل الذي ترعرعت فيه رئيسة الوزراء الإسرائيلية السابقة غولدا مائير في كييف يبعد خمس دقائق عن مقر الرئاسة الأوكرانية، مشيرًا بذلك إلى أنها يهودية أوكرانية الأصل مثله، وأضاف: "من فضلكم، تذكّروا مدى ترابطنا، ومدى قرب العلاقات بيننا، وما ينبغي أن يكون مستوى التفاهم بيننا".
رؤية زيلينسكي، وربما الفريق الحاكم معه أيضًا، لمستقبل أوكرانيا هي استنساخ للتجربة الإسرائيلية
أعاد الرئيس زيلينسكي مقارنته بين أوكرانيا وإسرائيل في خطاب آخر نشره موقع Infobae، قال فيه إن أوكرانيا يمكن أن تصبح "إسرائيل العظيمة مع هويتها الخاصة". ومن غير الواضح معنى الهوية الخاصة هنا، إذ حدّدت إسرائيل في قانون القومية هويتها على أنها يهودية. ولكن ماذا عن أوكرانيا وهويتها الخاصة؟ عقب هذا التصريح، نشرت وسائل الإعلام الأوكرانية نقلًا عن الموقع الرسمى للرئيس أن رؤية زيلينسكي لما بعد الصراع فى أوكرانيا، أي فى المستقبل، تشمل وجود قوات مسلحة فى "جميع المؤسسات ومحلات السوبرماركت ودور السينما، وسيكون هناك أشخاص يحملون أسلحة، مثل ما هو الوضع في إسرائيل حاليًا". وهذا يدلّ على أن رؤية زيلينسكي، وربما الفريق الحاكم معه أيضًا، لمستقبل أوكرانيا هي استنساخ للتجربة الإسرائيلية، وقد يُظنّ أن الاستنساخ يقتصر على البعد الأمني الدفاعي هنا، لكن نشطاء أوكرانيين وروسا تحدّثوا عن بعث ما يطلقون عليه "المشروع الخزري" في أوكرانيا، في إشارة إلى إمبراطورية الخزر اليهودية البائدة التي كانت قائمة في القرون الوسطى في المنطقة الممتدة من بحر قزوين وحتى جنوب أوكرانيا في أقصى اتّساع لها. وبحسب الباحثة الروسية آنا غريتشوفا، صاحبة كتاب "خزاريا الخفية"، فإن خزاريا التي هوِّدت في القرن الثامن الميلادي، كان يحكمها اليهود في الظل، بينما كان ملوك الخزر قبل تهويدهم ينتمون، في البداية، إلى الوثنية الشامانية، ومن ثم هَوّدوا أغلب البلاد، وتعتبر غريتشوفا أن الولايات المتحدة دولة يقودها المشروع الخزري أيضًا، وهي تشير بذلك إلى السيطرة الصهيونية على مؤسساتها وصناعة القرار فيها. لكن هل يمكن أن تنجح خطط المشروع الخزري في أوكرانيا؟
تستخدم إسرائيل الأمن والقمع ضد الفلسطينيين، بينما في أوكرانيا لا يوجد شعب تحت الاحتلال كي يقمعه الأوكرانيون
تختلف أوكرانيا عن دولة الصهاينة من حيث التركيبة الديموغرافية والثقافية والدينية والانتماء، فهي دولة مسيحية أرثوذكسية سلافية العرق، بينما دولة الصهاينة في فلسطين هي تجمّع مستعمرين، واليهود في أوكرانيا هم مكوّن أصيل، وليسوا غرباء مهاجرين، فهم أوكرانيون انتماءً وجنسيةً ووطنًا. الوجود اليهودي في أوكرانيا تاريخي سابق على الإمبراطورية الروسية، ويعود إلى الحقبة الأميرية؛ أي "إمارة كييف روس"، وقد جاء الشتات اليهودي الخزري في أوروبا الشرقية إثر هزيمة الخزر على يد الروس، ما أدّى إلى نهاية الإمبراطورية الخزرية وانتشار الخزر اليهود شمالًا وغربًا، واندماجهم بين السكان في شرق أوروبا، مع تعرّضهم إلى مجازر وحجزهم في غيتوهات على يد الروس والأوكرانيين.
في عدة لقاءات أخرى، ربط زيلينسكي أوكرانيا باليهود ومصائرهم، رغم أن عدد اليهود الأوكرانيين القاطنين في أوكرانيا اليوم لا يتجاوز بضع مئات الآلاف، إلا أن نفوذ شخصيات يهودية على الحكومة والبرلمان ووسائل الإعلام والاقتصاد اليوم كبير. ومع بدايات الغزو الروسي، خاطب زيلينسكي الإسرائيليين بالعبرية في تغريداتٍ عبر منصّة تويتر، مُذكرًا إياهم بالهولوكوست، ومشيرًا إلى أن بلاده تتعرّض للإبادة على أيدي الروس. ولم يقتصر حب إسرائيل على الرئيس زيلينسكي وحده، بل شاركته في ذلك زوجته أولينا، حيث صرحت الأخيرة لمحطة التلفزة الإسرائيلية 12، ونقلت التصريح صحيفة Times of Israel، إنه ليس من المبالغة القول إن تجربة إسرائيل السابقة تلهم مواطني أوكرانيا: "نحن نرى قوة الإسرائيليين وقدرتهم على الصمود في الوضع الصعب الذي تعيشه إسرائيل منذ سنوات.. قدرتكم على الصمود هي مثال لنا".
أن تكون دولة الصهاينة التي نشأت بقرار استعماري بريطاني، والمتهمة من منظمات حقوق الإنسان بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية والتطهير العرقي وممارسة سياسة الفصل العنصري، نموذجًا ملهمًا يُقتدى به، يضع علامات استفهام بشأن فهم القيادة الأوكرانية والرئيس زيلينسكي وبعض النخب الأوكرانية طبيعة الصراع في فلسطين، فالفلسطينيون لم يعتدوا على أحد، بل هم سكان البلاد الأصليون ويجرى الاعتداء عليهم يوميًا منذ 74 عامًا، على يد مجموعات من الأغراب، جلبتهم القوى الاستعمارية الغربية من كل بقاع العالم، بما في ذلك أوكرانيا، كي يقيموا كيانًا لهم في فلسطين، وينفذوا، بالنيابة عنها، مشروعًا استعماريًا ذا أهداف أمنية واستراتيجية ودينية. وإسرائيل تستخدم الأمن والقمع ضد الفلسطينيين، بينما في أوكرانيا لا يوجد شعب تحت الاحتلال كي يقمعه الأوكرانيون، الصراع مع روسيا سياسي على الحدود وعلى السيادة الوطنية لأوكرانيا، فأين هي تلك المقارنة مع إسرائيل الدولة المحتلة لأراضي سورية ولبنان وفلسطين مع أوكرانيا؟
حب إسرائيل من منطلقات دينية وأيديولوجية يعمي بعض العيون الأوكرانية عن رؤية الحقائق
يشير بعضهم من دون دليل إلى أن زيلينسكي يحمل الجنسية الإسرائيلية أيضًا، وربما يعود ذلك إلى ما كان قد نشره زيلينسكي نفسه بعد الهجوم الصاروخي الروسي الأول على كييف، والذي استهدف برج التلفزيون القريب من موقع بابي يار الذي شهد مذبحة لليهود على أيدي النازيين خلال الحرب العالمية الثانية، حيث كتب عبر منصّة تلغرام بالعبرية، التي يبدو أنه يجيدها، أن له عائلة في إسرائيل، وأنه زار إسرائيل مرّات عدة. وكلمة زيلينسكي، التي تعني الأخضر بالروسية والأوكرانية، اسم تشير نهايته إلى جذور بولندية، حيث تحمل نهايات أسماء العائلات الروسية في أغلبها حرفي "أوف"، بينما الأوكرانية "أو"، أما البولندية فتنتهي بـ"ي". وهو من مواليد مدينة كريفوي روغ، وهي من المدن الأوكرانية الناطقة بالروسية.
حب إسرائيل من منطلقات دينية وأيديولوجية يعمي بعض العيون الأوكرانية عن رؤية الحقائق، والمقارنة بهذا الشكل تؤلم الفلسطينيين وإخوتهم العرب وأحرار العالم الذين يتمنون الخير والسلام لأوكرانيا، والمقارنة تجعل دعم فئات كثيرة من العرب ومحبي السلام والإنسانية أوكرانيا تنقلب على عكس ما تتمنّى النخب الأوكرانية اليهودية الحاكمة. بكل تأكيد، يخطئ الرئيس زيلينسكي الوصف، وما نحن واثقون منه أن هذا الرأي لا تشاطره إياه الأغلبية الساحقة من الشعب الأوكراني، بل هو رأي متأثر بالانتماء الديني، وربما الأيديولوجي، لبعض النخب اليهودية الحاكمة في أوكرانيا.
كانت وسائل الإعلام الحكومية الموجّهة والنشاطات الحزبية في زمن الاتحاد السوفييتي، الذي كانت أوكرانيا أحد أهم مكوّناته، تُمثل أداة تثقيف سياسية يومية، وكان سكانه منحازين، بشكل شبه كامل، لفلسطين وقضيتها. وبعد انهياره، سيطر الصهاينة على أغلب وسائل الإعلام في الدول المستقلة المنبثقة عنه، لذلك تعرف الأجيال الجديدة من الأوكرانيين إسرائيل، بينما فلسطين ما زالت فقط في ذاكرة الجيل السوفييتي من كبار السن. تراجع حضور فلسطين في أوكرانيا بسبب غياب أحزابٍ سياسية مناصرة. وعلى المستوى الرسمي، تحاول أوكرانيا ربط سياساتها تجاه الصراع في فلسطين بسياسة الاتحاد الأوروبي الذي تطمح للحصول على عضويته.