أوكرانيا وديمقراطية الناخب الغربي "المستهلك"
أثار السياسي الأميركي الداهية، هنري كيسنجر، جدلا عالميا كثيراً بسبب تصريحات عن الأزمة الأوكرانية، حيث دعا أوكرانيا إلى التنازل عن بعض أراضيها لروسيا لإنهاء الحرب. وفي تاريخ الديبلوماسية الدولية، كانت للرجل دائمًا مكانة رفيعة بوصفه رمزا كبيرا لـ"الواقعية السياسية"، وهو، في إطار واقعيته، اعتبر أن ارتفاع الأسعار هو ما يشغل الناخب/ المستهلك أولًا، وتلك إحدى المعضلات الكبيرة في تاريخ الديمقراطية الغربية المعاصرة، فهذه الديمقراطية لم تتوقف يومًا عن الحديث عن "مُثُل" و"قيم" مطلقة وعالمية، بينما كان مصيرها دائمًا بيد الناخب الفرد الذي يريد ثمرة "آنية" لاختياراته السياسية، تنعكس في أرقام محدّدة، لها تأثير واضح على "قدرته الشرائية". وقد قال أحد الردود على كيسنجر إن هذا "ما يفكّر فيه الآخرون، لكنهم يخشون التعبير عنه". وقال ردٌ ثانٍ إن "الدعم الشعبي لحرب بعيدة عن شواطئ الولايات المتحدة لن يستمر إلى ما لا نهاية، ومشكلة التضخم بالنسبة للناخبين الأميركيين أكبر بكثير من أوكرانيا".
وفي ملاحظةٍ لا تخلو من دلالة، تساءل الكاتب الأوكراني ديفيد آرونوفيتش عن دلالة ألا يقدّم كيسنجر نصائحه للرئيس الأوكراني بعيدًا عن الإعلام "حيث لا يمكن لبوتين ومستشاريه سماعها واستمداد القوة منها؟". وفي منتدى دافوس، حث كيسنجر الدول الغربية على التوقف عن محاولة إلحاق هزيمة ساحقة بروسيا، محذرًا من أن ذلك ستكون له عواقب وخيمة على استقرار أوروبا على المدى البعيد. وحقيقة أن الواقعية السياسية الغربية جزء من تصور أوسع نطاقًا من مفرداته المهمة، "الناخب/ المستهلك" كان لعقود متتالية ثغرة محتملة يبني خصوم الغرب مخطّطاتهم على أساسها. ويومًا قال الزعيم السوفييتي، جوزيف ستالين، إن "رجال الأعمال الغربيين" سوف يبيعون لنا الغرب!
مصير الديمقراطية بيد الناخب الفرد الذي يريد ثمرة "آنية" لاختياراته السياسية، تنعكس في أرقام محدّدة، لها تأثير واضح على "قدرته الشرائية"
والآثار الكبيرة لما ترتّب عن مشكلات مثل: تضرّر سلاسل الإمداد وتوقف تصدير الحاصلات الزراعية وارتفاع أسعار النفط وموجة التضخم العالمي الكبيرة، تشكّل عبئًا حقيقيًا على صانع القرار في أية دولة ديمقراطية تريد دعم أوكرانيا، فالناخب في النهاية "مستهلك" وليس "مناضلًا"، وقدرة أي صانع قرار على استثارة مخزون القيم لدى الأفراد ليصبح رقمًا مؤثرًا في السلوك التصويتي يزداد صعوبةً بشكل ملحوظ. والرؤى الاستراتيجية في العلاقات الدولية تقوم دائمًا على تقدير "مكاسب" أو "خسائر"، إما غير مباشرة أو بعيدة الأمد، قد تتجاوز في مداها الزمني حياة الأفراد. وبالتالي، فإن هذا "الادخار بعيد المدى" الذي يختار فيه ناخب أن يخسر – باختياره – دولارًا بسبب الدعم العسكري لأوكرانيا، أو بسبب التداعيات الاقتصادية للحرب على قدرته الشرائية، يستلزم قدرًا كافيًا من الإدراك السياسي الـمُركَّب، أو أن تكون لدى الناخب ثقة كبيرة في النخبة السياسية وخياراتها التي لا تحقّق الحد الأقصى من المنافع الفورية: "الآن وهنا"، لأجل مكاسب تتحقّق على المدى البعيد.
والضغوط التي تمارسها روسيا على الاقتصاد العالمي تأمل أن تدفع الناخب الغربي (وبخاصة الأميركي) ليختار انكفاء أميركا على ذاتها، والتوقف عن إشعال مواجهات مع أنظمة تراها خطرًا على مصالحها وديمقراطيتها، والمساومة في الحقيقة معقَّدة إلى أبعد حدٍّ، فارتفاع أسعار النفط (مثلًا) يؤكد أن وراء روسيا (ضمنًا) أطراف عديدة، بعضها من حلفاء واشنطن، وجميعهم يرون الديمقراطية خطرًا، ويستخدمون كل ما في أيديهم من أدوات الضغط على الاقتصاد العالمي لدفع أميركا إلى قبول التعاون والتعايش مع كل الأنظمة الشمولية والتخلي عن خطاب "عولمة الديمقراطية"، ولو فعلت لربما قبلت الصين وروسيا (وآخرون يختبئون خلفهما) الانضواء تحت راية قيادة عالمية أميركية أحادية القطب، بل ربما هرولتا بحماس لطلب عضوية في حلف الناتو. وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي بقليل، تحدّثت روسيا عن ذلك من دون مواربة!
والناخب الأميركي بالتحديد ذاق "ثمرة" انتخاب ترامب، بخطابه الشعبوي ووعوده بـ"الإشباع الفوري"، وبناء رفاهية اقتصادية على واقعية سياسية مفرطة، وبخاصة في التعامل مع روسيا ونظم شمولية عديدة في العالم، واليوم يعود "مفترق الطرق" نفسه ليفرض نفسه على الناخب وصانع القرار معًا. وفي كل اختيار مخاطرة. وبدهي أن تفاوت حظوظ الناخبين في كل الديمقراطيات من المعرفة بالقضايا النظرية وقلة إحاطة كثيرين بالحقائق السياسية ودلالاتها يجعلان مسؤولية النخب، وكذلك قوة تأثيرها، ربما غير مسبوقة، وعليها وحدها يتوقف مدى احتمال أن تنجح الديمقراطية في المصالحة بين "المستهلك" و"المناضل".