أولئك الزعران في فلسطين
جاء حسنا من مدير شرطة رام الله والبيرة، العميد علاء الشلبي، أنه أبلغ الجمهور الفلسطيني، عن القبض على ثلاثةٍ من المشتبه بأنهم شاركوا في الاعتداء على جمعٍ من ضيوف مسرح عشتار في رام الله في 8 الشهر الماضي (يوليو/ تموز)، فمنعوا مسيرةً كان مقرّرا أن تنتظم (أجازتها الشرطة ثم تراجعت) ضمن "المهرجان الدولي لمسرح الشباب"، وأن يتقدّمها العلم الفلسطيني وخريطة فلسطين، وكان الاعتداء واسعا، بالضرب والشتم والألفاظ البذيئة وسرقة الهواتف، وطاوَل عديدين، بينهم أجانب وأطفال، في مشهدٍ صادم، دلّ على استهداف هؤلاء الزعران (بتعبير بيان مسرح عشتار) نشاطا ثقافيا ومهرجانيا عنوانُه الفرح والبهجة. وعلى ما نقل الفنان خالد الحوراني، فإن فنانةً بريطانية روّعها ما جرى قدّامها، وبكت، وسألت ما إذا كان حقّا هذا الجيل هو الذي يعوّل عليه الفلسطينيون لتحرير فلسطين. غير أنه ليس حسنا أن تُبلغ أجهزةٌ أمنيةٌ مختصّة القائمين على مهرجان فلسطين لموسيقى الهيب هوب وموسيقى الديجي (في بيت ساحور) بتهديداتٍ من مجهولين بالتعرّض للمشاركين فيه، ما دفعهم إلى إرجاء المهرجان إلى إشعارٍ آخر، وقد كان مقرّرا إقامته في يوم واحد، 29 يونيو/ حزيران الماضي، بمشاركة 12 فنانا فلسطينيا. وكان الأدْعى أن تحمي هذه الأجهزة المهرجان وفنّانيه، بدل الخضوع لما أراده "الزعران" المجهولون. وربما كان هذا هو ما كان يحسُن أن تُبادر إليه مؤسّسة عبد المحسن القطان في رام الله، فتقيم الأمسية للموسيقي جوان صفدي في مركزها الثقافي، بدل إلغائها وتنظيمها على شبكة الإنترنت، الأسبوع الماضي، بعد أن وصل إليها تهديدٌ مجهول المصدر بالتعرّض للأمسية. وبدا غريبا بعض الشيء أن لا تقدر هذه المؤسّسة العتيدة على تأمين أمسيةٍ فنيةٍ للجمهور العام، وأن تتخلّى الأجهزة الأمنية الفلسطينية المسؤولة عن واجبها في هذا الخصوص. وإنْ ينكتب هذا الرأي هنا مع التسليم بأن أهل مكّة أدرى بشعابها، وأعلمُ بتقدير الموقف الذي يروْن.
ليست الوقائع أعلاه وحدها التي زاول الزعران المجهولون ترويع مؤسساتٍ وفعالياتٍ ثقافيةٍ وفنيةٍ فلسطينية، في الأسابيع والشهور القليلة الماضية، فثمّة غيرُها أيضا، ما قد يجيز القول إن هذا التتالي المتواصل لهذه الأحداث يؤشّر إلى ظاهرةٍ مقلقةٍ، أو أقلّه حالة مقلقة، ليس من المناسب حصر المسؤولية عنها في "زعرانٍ" فالتين، في وسعهم التهديد والتجرّؤ والتطاول والتخويف، في وسعهم وقف فعالياتٍ فنيةٍ وثقافيةٍ ومسرحيةٍ وشبابية، بذرائع مختلقة. والقول هنا إنها مسؤولية مجتمعية فلسطينية، ومؤسّسية رسمية. وقد جاء بيان مؤسّسة عبد المحسن القطان محقّا في تحذيره من "العواقب الوخيمة التي يمكن أن تجرّها مثل هذه التهديدات والأفعال القمعية على الحياة الثقافية بشكل خاص، وعلى المجتمع الفلسطيني بشكل عام، وعلى مكانة فلسطين الثقافية في الخارج". وهنا، لا تكفي عبارات السخط والتنديد، وكذا الحديث عن بلطجة، مع أهميتها المؤكّدة طبعا، فثمّة الحاجة الملحّة إلى أن تعرف المؤسّسة الفلسطينية الرسمية، الممثلة في السلطة الوطنية وأجهزتها، إن للتهاون والتراخي في مواجهة هذه الحالة الشاذّة، والانحناء أمام تهديداتٍ مجهولة (أو معلومة لديهم؟)، مخاطر ليست هيّنة على السّلم الاجتماعي، وعلى الحيوية الثقافية التي يوصَف بها الشعب الفلسطيني، وعلى مظاهر الإبداع والتنشيط الفني التي من شديد الضرورة أن تلقى كل الدعم والإسناد والحماية، ولا تظلّ "الحيط المائل"، بتعبير صديقٍ كتب ساخطا، في المشهد الفلسطيني العام.
وعندما لا تُخبر الأجهزة الأمنية الفلسطينية المعنيّة بشيءٍ عن تحرّياتها بشأن الزعران والبلطجية الذين يستسهلون تخويف أهل الفن والثقافة والإبداع، في فلتانٍ لا ينفكّ يتمدّد، فلا يعلم عنهم الجمهور العام أي تفاصيل، فإن ثرثرات القيل والقال والارتياب والشكوك تنتعش وتتفشّى، من قبيل إن السلطة الفلسطينية نفسها، أو بعضا نافذا فيها، وراء هذا التجرّؤ المتحدّث عنه هنا. وقد يجد أهل هذا الكلام الذي يحسُن الاحتراس الشديد بشأنه من يستمعون إليه ويتجاوبون معه تصديقا أو ترجيحا. وفي هذا تشويشٌ مضاعفٌ في التملّي في هذا المقطع المُحزن من الصورة العامة للوحة النشاط الثقافي والفني في فلسطين.
من هم الزعران الذين يعتدون ويهدّدون؟ لماذا لا يُؤخذون بما يستحقّون من غلظةٍ وشدةٍ وعقوبةٍ وإنفاذ القانون؟